[صدق عبد الله بن عبد الله بن أبي مع الله ورسوله]
المثال الثاني: ما رواه ابن جرير بسنده عن ابن زياد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وقال له الرسول: (يا عبد الله! أسمعت ما قاله أبوك؟ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وما قال أبي؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل!)، فنظر عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (كذب والله أبي يا رسول الله! فأنت الأعز وهو الأذل، ثم قال للحبيب عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! والله لقد أتيت المدينة ولا يوجد بها من هو أبر بأبيه مني، أما وقد قال ما قال فلتسمعن ما يسرك يا رسول الله!).
وصدق مع الحبيب صلى الله عليه وسلم، فخرج عبد الله رضي الله عنه ووقف على باب المدينة، وجاء رأس النفاق أبوه عبد الله بن أبي ابن سلول فوقف أمامه ابنه وولده وقال له: إلى أين؟ فقال أبوه: إلى داري، فنظر إليه ابنه عبد الله وقال: (والله لا يأويك ظلها، ولا تبيتن الليلة فيها إلا بأمر من الله ورسوله!).
إنها العظمة! وأي كلمات نستطيع أن نعبر بها عن هؤلاء العمالقة الأطهار الأبرار الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم؟! فيصرخ أبوه عبد الله: يا للخزرج! يا للخزرج! ابني يمنعني داري! فما الذي حدث؟ وما هذا الذي تحول؟ لقد تحولت العقول والقلوب يوم أن استقر الإيمان فيها، ويوم أن تمكنت العقيدة منها، تغيرت العقول كلية، وتغيرت القلوب كلية، إنها اللمسة الخفيفة التي تحول القلوب العادية المظلمة الكافرة إلى قلوب سكن فيها حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، فتنظر بعدها إلى الدنيا على أنها حطام وظل زائل، وعارية مسترجعة، لا قيمة لها ولا وزن بجوار حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها العقيدة التي تحول القلوب، إنه الإيمان الذي يخرج الأطهار والأبرار.
فلما قال له ابنه: (والله لا يأويك ظلها، ولا تبيتن الليلة فيها إلا بأمر من الله ومن رسوله) صرخ عبد الله بن أبي ابن سلول قائلاً: يا للخزرج! ابني -وهو من أبر الناس بأبيه، وقد شهد الأنصار كلهم ببره- يمنعني بيتي! فما الذي حدث؟! وما الذي فعله محمد صلى الله عليه وسلم في هذه العقول والقلوب؟! إنه الإيمان والعقيدة إنها (لا إله إلا الله) بمعناها ومقتضاها، ويذهب الناس إلى عبد الله ويقولون له: يا عبد الله! هذا أبوك فكيف تمنعه؟! فيقول: والله لا يأويه ظلها، ولا يبيتن الليلة فيها إلا بأمر من الله ومن رسوله، ليعلم من الأعز ومن الأذل؟! فذهب الناس إلى من زكاه ربه في كل شيء.
إلى من زكاه ربه في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:٢].
وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:٥].
وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:٣].
وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:١١].
وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٧].
وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:١].
وزكاه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:٤].
وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤].
ذهب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! عبد الله يمنع أباه أن يدخل بيته ومنزله! فيرد صاحب الخلق الكريم ويقول لهم: (اذهبوا إلى عبد الله وأخبروه وقولوا له: يقول لك رسول الله: ائذن له أن يدخل بيته)، وهو الذي قال ما قال! إنه الحلم والعفو عند المقدرة والغضب، بأبي هو وأمي، فيأذن عبد الله -بعد أن أتاه الأمر من رسول الله- لأبيه أن يدخل إلى بيته، وهو يقول له: أما وقد جاء الأمر من رسول الله فلتدخل إلى بيتك، لتعلم من الأعز ومن الأذل؟!