وانطلق الناس، وخلت مكة من كل أحد إلا في البيوت، وفي بيت الله الحرام، وخلت الشوارع والطرقات، وتقدم الجيش الزاحف بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى دخل النبي مكة، ولما اقترب النبي من المسجد الحرام أحنى رأسه تواضعاً وتخشعاً وشكراً وذلاً لله جل وعلا، ولقد مر بذاكرته شريط طويل من الأحداث إنه اليوم يدخل مكة فاتحاً يتذكر يوم أن وضع التراب على رأسه هنا بالأمس القريب، وتذكر يوم أن خنق وكاد أن يموت بين أيديهم بالأمس القريب، وتذكر أصحابه الذين حنت لهم رمال مكة وصخورها لما لاقوا من العذاب الشديد، وتذكر أصحابه الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم وقد حرموا اليوم من هذا المشهد الجديد، وتذكر أصحابه وهم يخرجون إلى الحبشة في هجرة متكررة، وتذكر نفسه وهو يخرج إلى الطائف ويرجع وقد أدميت قدماه، وتذكر يوم أن خرج إلى المدينة مهاجراً فاراً بدينه، وتذكر يوم أن كان وحده في مكة يقول: لا إله إلا الله، ها هو اليوم يدخل مكة بعشرة آلاف يقولون: لا إله إلا الله.
أي كرامة هذه التي يتوج بها الحبيب في هذا الصباح الميمون؟! أي نعمة هذه التي يمتن الله بها على الحبيب في هذا الصباح الكريم المبارك؟ ويدخل الحبيب المسجد وفي يده قوس، يدخل في وسط كوكبة من المهاجرين والأنصار، يحيطون به كما تحيط الكواكب بالقمر في ليلة البدر، ويدخل الحبيب وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وبيد النبي قوس يطعن به هذه الأصنام؛ فتخر الأصنام على وجوهها بين يديه، وهو يتلو قول الله جل وعلا:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}[الإسراء:٨١] والحديث رواه البخاري وغيره.
واستدعى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتح النبي ودخل الكعبة من داخلها، فوجد صوراً، ووجد من بين هذه الصور صورة لإبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فقال:(قاتلهم الله! والله ما استقسما بالأزلام قط) والحديث رواه البخاري ومسلم فأمر النبي فمحيت الصور، وكسر النبي الأصنام بيده داخل الكعبة، وأغلق عليه باب الكعبة، وعلى أسامة وبلال، وصلى لله بداخل البيت.