[موقف الجلاس في غزوة تبوك]
وفي مقابل هذه الصورة الآثمة صورة الإفك، والظلم، والطغيان والبطش، وعدم التثبت والتحري نرى صورة مشرقةً جميلةً وضيئةً، تَعلَّموا هذه الصورة واطبعوها في قلوبكم وقلوب أبنائكم وبناتكم إنه ذلك الفتى المؤمن، إنه الفتى الذي لم يتجاوز العاشرة إلا قليلاً، إنه عمير بن سعد رضي الله عنه، ذلكم الفتى البار الذي أحب رسول الله من كل قلبه، وتمكن الإيمان في كل كيانه وتغلغل في كل جوارحه، عمير بن سعد مات أبوه وتزوجت أمه برجلٍ ثري يقال له: الجلاس بن سويد وأحب عمير الجلاس حباً شديداً، وأحب الجلاس عميراً حباً شديداً لإيمانه وصلاحه وتقواه، وفي العام التاسع في غزوة تبوك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتجهزوا، ويستعدوا لهذه الغزوة البعيدة، في الوقت الذي اشتد فيه الحر وأمرهم بالإنفاق.
ولما كان المال في أيديهم أسرعوا بالإنفاق، ولكن سكن المال في قلوب المسلمين في هذه الأيام فمن أجل هذا المال يظلم، ويبطش ويطغى من أجل الحفاظ على كرسيه الزائل، ومنصبه الفاني الذي يدر عليه الريالات والدولارات، جاء الجميع بكل أموالهم، جاء الصديق بكل ماله، وجاء عمر بنصف ماله، وسابق المسلمون الصادقون في الإنفاق في سبيل الله، وتباطأ المنافقون الخالصون.
وعاد الفتى المؤمن عمير بن سعد إلى زوج أمه الجلاس بن سويد ليقص عليه أخبار البطولة، والبذل والعطاء والإنفاق من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ليستثير همته لينفق في سبيل الله، وإذا بـ الجلاس بن سويد يقول قولةً تخرجه من الإسلام دفعةً واحدة، وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه، يرد الجلاس بن سويد على الفتى البار المؤمن، ويقول له: [والله إن كان محمدٌ صادقاً فنحن أشر من الحمير].
وذهل الفتى، وسقط في يده، ودارت به الأرض، ونظر إلى الجلاس وقال: [والله ما كان أحدٌ على ظهر الأرض بعد رسول الله أحب إليّ منك، ولقد قلت مقالةً إن أعلنتها فضحتك، وإن أخفيتها عن رسول الله خنتُ نفسي وديني!! -إن أعلنتها فضحتك، وإن أخفيتها أهلكتُ نفسي وخنتُ نفسي وديني- وإني ذاهبٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخبره فكن على بينةً من أمرك] وانطلق الفتى البار الصادق إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وأخبره بما قال الجلاس بن سويد.
هل اتخذ النبي قراراً؟ هل أصدر النبي فرماناً وحكماً مع أن الذي جاءه ثقة وشابٌ موثوقٌ؟ ما أصدر النبي القرار، وما اتخذ النبي الأمر، بل قال اجلس يا عمير؟ وأرسل النبي أحد أصحابه ليأتي بـ جلاس بن سويد، إنه التثبت والتبين.
قال سليمان للهدهد: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:٢٧] نحن لا نأخذ بهذه الكلمات المعسولة، وبهذه الكلمات الحلوة، فإن كل أحدٍ يريد أن يثبت لنفسه الحق، ويريد أن يزيح عن نفسه المسئولية، ولكن هيهات هيهات، فإن الكل مسئول أمام من يعلم السر وأخفى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: اجلس يا عمير؟ وأرسل أحد أصحابه فأتى بالـ جلاس بن سويد، فأقبل الجلاس وحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس بين يديه، فقال له النبي: (يا جلاس ما مقالةٌ سمعها منكَ عمير بن سعد) وذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله عمير فقال الجلاس: [لا والله يا رسول الله ما قلتُ هذا أبداً، وإني أحلف بالله أن عميراً كذب عليك].
ونظر النبي إلى عمير بن سعد، وقد احتقن وجهه بالدم، وتساقطت الدموع على خديه وصدره مدراراً وهو يرفع رأسه إلى السماء يرفع عمير الفتى البار رأسه إلى السماء بعد هذا الموقف الحرج وهو يدعو الله جل وعلا ويقول: اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمتُ به.
واستجاب الله دعوة هذا الفتى، صعدت الدعوة إلى الله فاستجيبت فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذه ما كان يأخذه! فعلم الصحابة أن الوحي يتنزل فتعلقت الأنظار برسول الله صلى الله عليه وسلم وصمتت الألسنة، وهدأت النفوس وسكنت الجوارح، وشخصت الأبصار برسول الله صلى الله عليه وسلم والجلاس بدأ يظهر عليه الخوف وبدأ يرتعد، وبدأ يتهلل الفتى البار المؤمن عمير بن سعد رضي الله عنه، وسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وزال عنه أثر الوحي وهو يبتسم ويتلو قول الله جل وعلا: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:٧٤] الله أكبر! وارتعد الجلاس بن سويد، وقال: صدق والله عمير يا رسول الله، وإني لمن الكاذبين، أتوب إلى الله يا رسول الله، أتوب إلى الله يا رسول الله، والتفت النبي إلى الفتى الصادق البار عمير بن سعد وهو يبتسم ومد النبي يده الشريفة إلى أذن عمير بن سعد وأمسكها برفقٍ وقال لـ عمير: (وفت أذنك ما سمعت وصدقك ربك يا عمير).
الله أكبر! إنه الصدق وإنه التثبت والتبين.
وبعد ذلك أيها الأحباب يُذكِّر الله الصحابة والمسلمين جميعاً بالنعمة العظيمة الكريمة ألا وهي: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:٧ - ٨].
اللهم ارزقنا الصدق في أقوالنا، وارزقنا الإخلاص في أعمالنا.
اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً جزلاً على البلاء صابراً.
اللهم ارزقنا اليقين فيك، اللهم ارزقنا التوكل عليك، اللهم ارزقنا الصبر على بابك، اللهم ارزقنا الاستعانة بك والاستغاثة بك.
اللهم ارزقنا يقيناً يباشر قلوبنا، وإخلاصاً يصدق أعمالنا، وصدقاً يباشر أقوالنا يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم طهر ألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، وأعمالنا من الشرك أنت ولي ذلك ومولاه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تدع لأحدٍ منا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا حاجةً لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم تقبل منا واقبلنا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك التواب الرحيم، ووفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه أنت ولي ذلك ومولاه يا رب العالمين، هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا وسيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وإن كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.