للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قلوب الصالحين رحيمة]

وقلوب الصالحين أيضاً أيها الأحبة قلوب رحيمة كبيرة، لا تعرف الغلظة ولا القسوة، ولا تعرف سبل الانتقام، كلا، بل هي قلوب امتلأت بالحب لكل مسلم على وجه الأرض، وإن وجد صالح من هؤلاء الصالحين أخاً من إخوانه على معصية أو على تقصير اقترب منه برحمة حانية، وبكلمة رقيقة رقراقة، فذكره بالله تبارك وتعالى.

أيها الأفاضل! إن الناس في حاجة إلى قلب كبير رحيم، يتسع لضعفهم ولجهلهم ولبعدهم؛ حتى يسمعهم عن ربنا ونبينا.

إن الصالحين لا يعرفون الانتقام، ولا يعرفون القسوة، ويتذكرون دوماً قول الله لنبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:١٥٩]، ويذكرون قول الله لنبيه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥].

وما أحلى وأرق هذا المشهد، فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أعرابياً يترك الصحراء المترامية الأطراف، ليدخل إلى مسجده فيبول على مقربة من النبي عليه الصلاة والسلام، وبكل أدب ورحمة وتواضع يريد الصحابة أن ينقضوا عليه، فيقول صاحب الخلق الرحمة المهداة: (لا تزرموه، دعوه يكمل بولته)، وذلك في المسجد إلى جواره؟ نعم.

فينتهي الأعرابي من تبوله، وينادي عليه النبي برحمة ليقول له: (إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا، إنما جعلت للصلاة، ولذكر الله، ولقراءة القرآن)، ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فأتى بدلو من الماء فصبه عليه، وطهر المكان وأنهى المشكلة تماماً برحمة متناهية، وبأدب عال، وبخلق عظيم.

كلنا يحفظ الحديث، لكننا وبكل أسف إلى الآن لم نحول هذا الحديث وغيره في حياتنا إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، بل ربما إذا رأى أحدنا أخاً من إخوانه على تقصير أو على معصية، وأراد أن يكلمه، يكلمه ولسان حاله يقول: أنا التقي وأنت الشقي! أنا المتبع وأنت المبتدع! أنا الطائع وأنت العاصي! أنا على الحق وأنت على الضلال! لا يا أخي، {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:٩٤] قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:١٧] الله الله في الرحمة بعباد الله! تحركوا أيها الأفاضل، يا شباب الأمة، قد يكون الحق معنا، وهنا (قد) للتحقيق، كقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:١].

أقول: قد يكون الحق معنا، أسألكم بالله أن تتدبروا هذه الكلمات، قد يكون الحق معنا، ولكننا لا نحسن أن نشهد لهذا الحق على أرض الواقع بأخلاقنا وسلوكنا، ولا نحسن أن نشهد لهذا الحق عرضاً وبلاغاً ودعوة لأهل الأرض بالحكمة البالغة والرحمة المتناهية، والكلمة الرقيقة الرقراقة.

وقد يكون الباطل مع غيرنا لكنه يحسن أن يلبس الباطل ثوب الحق، ويحسن أن يصل بباطله إلى حيث أن ينبغي أن يصل الحق، وحينئذ ينزوي حقنا ويضعف كأنه مغلوب، وينتفخ باطلهم وينتفش كأنه غالب، وهنا يتألم أهل الحق لحقهم الذي ضعف وانزوى، وللباطل الذي انتفخ وانتفش، فنعبر عن ألمنا للحق بصورتين: إما أن نعبر عن ألمنا بصورة سلبية ساكنة فنزداد هزيمة نفسية على هزيمتنا، وعزلة عن المجتمع والعالم، وإما أن نعبر عن ألمنا بصورة صاخبة منفعلة متشنجة دموية، انفلتت من القواعد الشرعية القرآنية والنبوية، وهنا نخسر الحق للمرة الثالثة وللمرة الألف، لأن أهل الأرض سيزدادون بغضاً للحق الذي معنا، وإصراراً على الباطل الذي معهم.

فلنشهد لهذا الحق على أرض الواقع بالأقوال والقلوب والأخلاق والأعمال، ولنشهد لهذا الحق ببلاغه لأهل الأرض بالحكمة البالغة والرحمة، بالكلمة الرقراقة، قال الله لنبيين كريمين موسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٣ - ٤٤]، فإن خان الكافرون فنحن لا نخون ديننا أبداً، وإن حاد الكافرون عن هذه المواثيق المكذوبة المزعومة فنحن لا نحيد أبداً عن منهج ربنا ومنهج نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا يضغط علينا الواقع النازف بدمائه وأشلائه ليخرجنا عن أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.