للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا تفارق العبادة حتى تلقى الله]

المؤمن يعبد الله حتى يلقى الله وهو على عبادة، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم اليقين بالموت كما في صحيح البخاري في قصة موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وعثمان بن مظعون ممن شهد بدراً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهو أول من لقب بالسلف الصالح، وكان من الزهاد العباد، وثبت في رواية في سندها ضعف: (أن عثمان بن مظعون لما مات ذهب إليه المصطفى فقبله بين عينيه، وبكى حتى سالت دموع رسول الله صلى الله عليه وسلم على خدي عثمان بن مظعون رضي الله عنه)، هذا الصحابي الجليل المبارك (لما مات قالت امرأة من الأنصار يقال لها أم العلاء: رحمة الله عليك أبا السائب -تقصد عثمان بن مظعون - شهادتي عليك أن الله أكرمك، فقال لها المصطفى صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقالت أم العلاء: سبحان الله! فمن يا رسول الله؟! -أي: فمن هذا الذي سيكرمه الله إن لم يكرم الله عثمان بن مظعون؟! - فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين -يعني: الموت- وإني لأجو له الخير، ثم قال المصطفى: والله ما أدري -وأنا رسول الله- ما يفعل بي ولا بكم!).

يا من غرتك عبادتك! ويا من غرتك طاعتك! ويا من ملأ قلبك العجب والكبر! ويا من غرك علمك! هاهو رسول الله أعرف الناس بالله، وأخشى الناس لله، وأتقى الناس لله، الذي غفر له مولاه ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: (والله ما أدري -وأنا رسول الله- ما يفعل بي ولا بكم)، اللهم ارزقنا حسن الخاتمة يا أرحم الراحمين.

فاليقين هو الموت، فأنت مأمور أيها الموحد لله جل وعلا، وأيتها الموحدة لله جل وعلا؛ نحن مأمورون بأمر الله لنبيه أن نعبد الله جل جلاله حتى يأتينا اليقين، حتى يأتينا الموت ونحن على عبادة وطاعة لرب العالمين.

قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته) أي: داوم عليه وحافظ عليه.

وفي الصحيحين من حديث عائشة مرفوعاً: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي عمرة سفيان بن عبد الله قال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: قل: آمنت بالله ثم استقم).

استقم أيها الموحد لله استقم على العبادة استقم على الطاعة، لا ينبغي أن يروغ المؤمن روغان الثعالب، إن المؤمن مستقيم ثابت على طاعة الله، حتى ولو زلت قدمه بالمعصية، فإنه سرعان ما يجدد الأوبة والتوبة إلى الله جل وعلا: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، وفي رواية الترمذي وأحمد: (قال: حدثني بأمر أعتصم به؟ قال: قل: ربي الله ثم استقم، قال: فما أخوف ما تخاف علي يا رسول الله؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه، وقال: أخوف ما أخاف عليك هذا، وأشار المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى لسانه).

فاستقم على طاعة الله، واعلم بأن الاستقامة على عبادة الله جل وعلا فضلها عظيم في الدنيا قبل الآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٠ - ٣٢].

(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) على منهج الله على العبادة على الطاعة، (تتنزل عليهم الملائكة) متى؟ قال مجاهد وزيد بن أسلم: تتنزل عليهم الملائكة وهم على فراش الموت، في لحظات السكرات والكربات، في لحظات شديدة قاسية، تألم منها نبينا المصطفى نفسه، حتى قالت الصديقة بنت الصديق: والله لا أكره شدة الموت لأحد بعدما رأيت رسول الله.

في هذه اللحظات تتنزل الملائكة على أهل الاستقامة، على أهل العبادة والطاعة بهذه البشارة الكريمة: (أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) من أنتم يا أصحاب هذه البشارة؟ سيأتي

الجواب

( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا) أي: في الجنة، (مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) أي: ما تريدون وما تطلبون، (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي: ضيافة وإنعاماً وإكراماً من الله جل جلاله.

قال ابن عباس وقتادة وابن أبي حاتم: تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة عند الخروج من القبور يوم البعث والنشور، في يوم الفضيحة الكبرى، نسأل الله أن يسترنا في الدنيا والآخرة، يوم يقوم الناس جميعاً إلى القبور حفاة عراة غرلاً، فإذا خرج أهل الاستقامة على طاعة الله وعبادة الله من القبور تلقتهم ملائكة العزيز الغفور بهذه البشارة الكريمة: (أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) * (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) * (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).

ولا تعارض في الجمع بين القولين: فالملائكة تتنزل بالبشارة على أهل الاستقامة، على أهل الطاعة إذا ناموا على فراش الموت، وإذا خرجوا من القبور مرة أخرى، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧].

لا تفارق العبادة حتى تلقى الله جل وعلا، ولو علم الواحد منا أن الموت لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل لظل في طاعة الله وفي عبادة الله حتى يأتيه هذا الغائب الذي لا علم لأحد بقدومه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٣٤].

والله لا أعلم يقيناً هو أشبه بالشك من الموت لعدم استعدادنا له.

هل من المسلمين أحد أو من المسلمات إلا والكل يعلم أنه سيموت؟ الموت حق لا مراء فيه ولا شك، ولكن من من المسلمين استعد لهذا اليقين بالطاعة والعبادة؟ لو جاء ملك الموت لأحدنا الآن فهل هو على استعداد بعمله الذي هو عليه للقاء الله؟ كان السلف رضوان الله عليهم إذا جاء أحدهم ملك الموت ربما لا يجد عنده من الطاعة ما يزيد؛ لأنه ممتثل للأمر، مجتنب للنهي، منتظر للقاء الرب جل جلاله في أي لحظة من اللحظات! فاعبد الله حتى يأتيك اليقين، حتى يأتيك الموت، وإذا كنت لا تدري متى سيأتيك الموت فاجعل كل أنفاسك طاعة لله، واجعل كل حياتك وحركاتك وسكناتك عبادة لله، وامتثالاً لأمره جل في علاه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣].

ولله در القائل: أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو أن الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هي {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:١٩ - ٢٢].

(وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أنك تموت والله حي لا يموت، (وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، (وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، (ذلك ما كنت منه تحيد) أي: تجري وتهرب وتفر.

تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الوزير! ويا أيها الأمير! ويا أيها الصغير! ويا أيها الفقير؟! كل باك فسيبكى وكل ناع فسينعى وكل مدخور سيفنى وكل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى أيها الغافل! أيها اللاهي! أيها الساهي! يا من تركت القرآن بعد رمضان! يا من تركت الصلاة في جماعة بعد رمضان! يا من تحللت من الأوامر بعد رمضان! يا من تخليت عن الحساب بعد رمضان! يا من ضيعت قيام الليل بعد رمضان! يا من تركت الأذكار! يا من تخليت عن الصدقة في سبيل العزيز الغفار! (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).

دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل ف