[الحذر من سوء الخاتمة]
وبعد ذلك فإن أعظم هذه الدواهي الثلاث هي داهية سوء الخاتمة، والعياذ بالله! وأقول: إن الأمر بيد الله، ويحتاج إلى إيمان صادق، وعمل مخلص، وسوء الخاتمة أمر خطير يحتاج إلى أمور، ونسأل الله جل وعلا أن يختم لنا بحسن الخاتمة؛ فكم من مسلم ختم له بغير الإيمان، قرأت في كتاب (التذكرة) للإمام القرطبي: أن امرأة مرت على رجل وسألته قائلة: يا هذا! أين حمام منجاب؟ وحمام منجاب مكان يغتسل فيه النساء، فلما نظر إليها هذا الرجل وقعت في قلبه فافتتن بها؛ فأشار إلى باب داره وقال: هذا هو حمام منجاب، فدخلت المرأة إلى هذا البيت، ولما علمت أنها وقعت في الفخ أرادت أن تزينها له حتى تهرب، فقالت: هلا أحضرت كذا وكذا؟! فخرج هائماً على وجهه، فهربت، فعاد إلى بيته ليبحث عنها فلم يجدها، فخرج إلى الشوارع والطرقات هائماً يقول: يا ربُّ قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب وظل الرجل يهذي بهذا الكلام حتى عاش طيلة حياته يقول هذه، ولما حضرته الوفاة وذهبوا يلقنوه (لا إله إلا الله) وكلما قالوا له: قل لا إله إلا الله كان يرد على الحاضرين ويقول: يا ربُّ قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب وختم له بسوء الخاتمة، والعياذ بالله! وذكر القرطبي أيضاً أن مؤذناً كان يؤذن في مصر، وصعد ذات يوم على سطح المسجد ليرفع الأذان، فوقعت عينه على امرأة في بيت رجل نصراني، فوقعت في قلبه، وافتتن بها، فنزل إلى دارها وقال: أريدك لنفسي، فقالت: أنت مسلم وأنا نصرانية، فإن أردتني فلتخرج من دينك ولتتنصر.
قال: لا مانع من أن أتنصر من أجلك، فخرج الرجل من الإسلام وتنصر، والعياذ بالله! ثم صعد على سطح هذه الدار لبعض شئونه فسقط ميتاً، فلم يفز بدنيا ولا بآخرة.
وذكر أيضاً الإمام القرطبي في (التذكرة): أن أحد الناس كان يعمل تاجراً، ولما حضرته الوفاة جعلوا يلقنوه (لا إله إلا الله)، فكان يكرر الأرقام الحسابية فيقول: عشرة إحدى عشر اثنا عشر! يا عبد الله! قل: لا إله إلا الله، وهو يكرر الأرقام الحسابية والعياذ بالله! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وختم له بسوء الخاتمة، نسأل الله العفو والعافية.
فما العمل إن كان الأمر والقلوب بيد الله؟! إن دواهي الموت الثلاث تجعل الثابت حيراناً، فما العمل لينجينا الله جل وعلا من الخاتمة السيئة والعياذ بالله؟! يقول الإمام ابن كثير عليه رحمة الله في تفسيره لقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].
(لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه).
إنها قمة العدل وقمة الرحمة.
ويقول الإمام ابن رجب الحنبلي عليه رحمة الله: (ما علم على الإطلاق أن رجلاً ختم له بسوء الخاتمة وقد استقام ظاهره مع باطنه، ولا يختم بسوء الخاتمة -والعياذ بالله! - إلا لمن اختلف باطنه مع ظاهره)، فمن اختلف باطنه مع ظاهره فهو الذي يختم له بسوء الخاتمة.
فالأمر -أيها الإخوان- يحتاج إلى صدق في العمل، وإلى اجتهاد في الطاعة، وإلى متابعة للجماعة، وإلى التزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان قول وعمل، ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
إذاً: الأمر يحتاج إلى استقامة في الظاهر، واستقامة في الباطن، فمن استقام ظاهره مع باطنه ختم له بخاتمة طيبة إن شاء الله جل وعلا، فلقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، فإن عشت على الطاعة مت على الطاعة، وإن عشت على التوحيد طيلة حياتك واستقمت عليه توفاك الله عليه، وإن عشت للمباريات والمسلسلات والأفلام والمعاصي والشهوات مت على ذلك، وبعثت على ذلك، فالأمر جد خطير.
فمن رحمة الله وعدله وكرمه أن من استقام على طريق الإيمان، واستقام على طريق الطاعة، واستقام على طريق التوحيد، واستقام على طريق السنة؛ ختم الله جل وعلا له بالإيمان، وختم الله جل وعلا له بالتوحيد، فثبته الله جل وعلا عند الموت.
يقول ابن رجب الحنبلي: (يقال للملك إذا ما ذهب ليقبض روح العبد: شم رأسه، فيقول: أجد في رأسه القرآن، فيقال للملك: شم بطنه، فيقول: أجد في بطنه رائحة الصيام، فيقال: شم قدميه، فيقول: أشم في قدميه رائحة القيام، فيقال: عبد حفظ نفسه فحفظه مولاه).
احفظ الله يحفظك؛ فحق على الله لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يتولى الله رعايته، وأن يحسن الله نهايته.
إذاً: الأمر بيد الله جل وعلا، والأمر يحتاج إلى إيمان واستقامة، وإلى صدق ومجاهدة، وإلى إخلاص ويقين، وإلى عمل وجد، وإلى اجتهاد وطاعة، فإنك إذا أردت أن تحصل على درجة الماجستير أو على درجة الدكتوراة لا تنام كثيراً، بل تواصل الليل بالنهار من أجل الحصول على شهادة ربما حرص أحد على أن يأخذها وهي تبعده عن الله جل وعلا، وقد يكون فيها تجرؤ بعد ذلك على الله، وتحدٍ لشرع الله، فهذا دكتور عظيم يقول: لماذا لا نخطئ البخاري؟ إن البخاري رجل فلماذا لا نخطئ البخاري؟! وهو الذي ظل يجمع صحيحه، وقضى في حله وترحاله ستة عشر عاماً كاملة، ثم يقول هذا: لماذا لا نخطئ البخاري؟ وهو الذي أجمع جلة أهل العلم على صحة كتابه إلى الحد الذي قالوا فيه: إنه أصح الكتب بعد القرآن الكريم، ثم يأتي عالم في عرف العلماء يحمل الدكتوراة ليتحدى الله جل وعلا بعد ذلك، ويتجرأ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيا أيها الأحباب! إن الأمر جد خطير، ولكنني لا أقنط أحداً؛ فإن الأمر في غاية البساطة، قال ابن رجب: (من استقام ظاهره مع باطنه ختم له بالإيمان، ومن ناقض ظاهره باطنه ختم له بسوء الخاتمة).
فهيا استقيموا على طريق التوحيد، وتتبعوا سنة محرر العبيد صلى الله عليه وسلم، واجتهدوا في الطاعة والعبادة، واعلموا أن الله جل وعلا يقبل التوبة عن عباده، ويغفر الذنوب، ويكفر السيئات، قال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].
فلا تيئسوا ولا تقنطوا، وتوبوا إلى الله جميعاً -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون، واعلموا أن الله سبحانه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى لله جل وعلا.
فهيا أيها الأحباب! بادروا بالتوبة ولا تسوفوا، فإن الموت يأتي بغتة.
أسأل الله جل وعلا أن يختم لنا بحسن الخاتمة، وأن يختم لنا بالتوحيد والإيمان، وأن يخرجنا من هذه الدنيا على خير، وأن يحشرنا في زمرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه يوم نلقاه.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.