[قصة المرأة الصابرة]
ثانياً: قصة مثيرة لامرأة صابرة بالمنصورة، وهي التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع في هذه الجمعة، ولولا أنني وقفت على هذه القصة بنفسي، ورأيت هذه المرأة المسلمة الصابرة بعيني، لظننت أن قصتها ضرب من الخيال.
امرأة من أمة الحبيب المصطفى تجسد لنا في قرننا العشرين صبر نبي الله أيوب! الحمد لله أن رأينا من أمة الحبيب من يحاكي صبر الأنبياء.
هذه المرأة تبدأ قصتها بميلادها في قرية جُدَيدة الهالة بمركز المنصورة، وفي الثامنة عشرة تتزوج، وبعد سنتين تنجب طفلها الوحيد الذي توفي في الرابعة من عمره، فتصبر وتحتسب، وفي عام سبعة وستين يهاجمها المرض، فتحس بالآم حادة في بطنها، فَتُنْقَل على الفور إلى المستشفى الجامعي بالمنصورة، ويشخص الأطباء المتخصصون الحالة بأنها انسداد في الأمعاء الدقيقة، ويقرر الأطباء للمريضة المسلمة الصابرة جراحة عاجلة لاستئصال جزء من الأمعاء، وبعد الجراحة ما شعرت المرأة بتحسن.
وبعد ستة أشهر قرر الأطباء مرة أخرى جراحة ثانية لاستئصال جزء آخر من الأمعاء!! وبعد ستة أشهر قرر الأطباء جراحة ثالثة لاستئصال جزء جديد من الأمعاء!! وفي هذه المرة اكتشف الأطباء أن المرأة مصابة بمرض خطير مشهور، ألا وهو مرض (الدرن) المعروف عالمياً بـ ( T.
B)، وهنا قرر الأطباء عدم التدخل الجراحي، واكتفى الأطباء بالعقاقير والحقن وتركوا أمرها لله جل وعلا!! صبرت المرأة واستسلمت لقضاء الله جل وعلا، ونامت على سريرها الأبيض في آخر غرفة في القسم الرابع عشر، باطنية مستشفى المنصورة، مستسلمة لقضاء الله وقدره.
لا يفتر لسانها عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ويلهج لسانها بالثناء والشكر لله جل وعلا.
ثم هاجمها المرض هجوماً عنيفاً بعد ذلك، فانتقل هذا المرض الخطير إلى الأمعاء كلها، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى كلِيتها اليمنى، ففشلت الكِلية اليمنى تماماً، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى الرحم، فأصيب الرحم بهذا المرض، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى العظام، فنخر المرض العظام نخراً، وأصبحت العظام هشة متآكلة، ثم فقدت عينها اليسرى، فلم تعد ترى بعينها اليسرى تماماً.
انظر إلى هذه المراحل من مراحل الابتلاء، ومع كل مرحلة إذا ما عَلمِت من الطبيب المسلم ما ابتلاها الله به، تبتسم وتنظر إلى السماء، وتقول: الحمد لله الحمد لله جَبَلٌ من جِبَال الصبر منذ عام سبعة وستين لم تفارق سريرها في المستشفى الجامعي!! وطلقها زوجها بعد ست سنوات من المرض، ومات ولدها الوحيد واحتسبته عند الله جل وعلا.
انظر إلى هذه المفاجأة العجيبة الغريبة، ففي عام (٨٥) قبل موسم الحج سمعت محاضراً في شريط يتحدث عن الحج، فقررت أن تحج بيت الله الحرام، وقالت للطبيب المختص: أريد أن أحج بيت الله، فابتسم، وقال: كيف ذلك؟ قالت: لقد عَزمْتُ وتوكلت على الله، فهددها الأطباء بأنها لو فارقت سريرها ستعرض حياتها للخطر في التو واللحظة، فقالت بكل ثقة ويقين: أريد أن ألقى الله وأنا على طاعة له!! قررت أن تلقى الله على طاعة، فباعت ما تملك من الأرض، وقررت حج بيت الله الحرام، واقترب منها طبيب تقي نقي فحثها على ذلك، وسأل الله عز وجل لها الثبات.
وهنا لما قررت السفر، وجيء بالسيارة التي ستحملها إلى الطائرة في القاهرة، تقدم الأطباء لنزع الخراطيم من هذا الجسد النحيل الضئيل، فهي امرأة لا تعيش إلا بهذه الخراطيم.
أستغفر الله! بل لا تعيش إلا بأمر الملك رب العالمين!! الخرطوم الأول ينزع ما وظيفته؟ كان لتوصيل المحاليل الغذائية؛ لأن المرأة لا تأكل منذ عام سبعة وستين، بل تعيش على هذه المحاليل الغذائية عبر هذه الخراطيم!! الخرطوم الثاني: للبول -أعزكم الله- عن طريق القسطرة.
الخرطوم الثالث: لأكياس الدماء التي يوصلونها إلى هذا البدن الضئيل.
الخرطوم الرابع: لإخراج الرايل من الأمعاء الدقيقة عن طريق الأنف.
ووقف الأطباء ينتظرون لها الموت مع أول دقيقة ينزع خرطوم واحد منها، فنزعت الخراطيم والمرأة تتحدث وتبتسم، وهي سعيدة أنها ذاهبة لحج بيت الله الحرام! وحُملت في السيارة، ثم إلى الطيارة، وحمِلت في جميع مناسك الحج، وأدت فريضة الله جل وعلا بإعجاز الملك الذي يقول للشيء (كن) فيكون، وهي تحكي هذه القصة وتتعجب وتقول: ما أكلت شيئاً إلا عن طريق الفيتامينات وعن طريق الأدوية! قضت هذه الفترة بفضل رب الأرض والسماوات جل وعلا وهى تبكي طوال الرحلة، وتشكر الله الذي أعانها في هذه الحالة حتى رأت بيته جل وعلا، وانطلقت إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي، ثم للسلام على الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وعادت من حج بيت الله مرة أخرى إلى سريرها، ونامت على فراشها في سريرها الأبيض، وطلبتني لزيارتها لأول مرة، فذهبت لأزورها مع بعض الأحبة الذين هم معي الآن في هذا المسجد، ذهبت إليها لأذكرها بالله، والله يا إخوة! لقد ذهبت لأذكرها بالله فذكرتني هي بالله جل وعلا، وخرجت من عندها وقد احتقرت نفسي، واحتقرت جهدي، واحتقرت عملي لله جل وعلا.
امرأة عجيبة لا يفتر لسانها من ذكر الله والثناء والحمد لله جل وعلا، وقد ماتت يوم الأربعاء الماضي العاشر من شهر إبريل لعام ستة وتسعين، وقبل الموت بأربعة أيام طلبتني لزيارتها مرة أخيرة، فذهبت إليها مع بعض أحبابنا في هذا المسجد، ودخلت عليها، وجلست إلى جوارها، وهي تبتسم في وجهي وتقول: أين أنت؟ فاعتذرت لها عن تأخري عنها، فقلت لها: كيف حالك؟ قالت: الحمد لله الحمد لله.
وأنا أعجب لكونها تحمد الله على هذه الحالة.
نظرت إلى غرفتها -فوجدتها قد قسمت الغرفة إلى قسمين: جعلت النصف الأول مسجداً لله جل وعلا، وجعلت النصف الآخر لسريرها، ووضعت إلى جوارها صندوقاً لجمع التبرعات، لمن أراد أن يتبرع لفقراء المرضى ممن يعجزون عن شراء الدواء! وإذا ما دخل عليها طبيب أو ممرضة أعارته شريطاً لمحاضر من المحاضرين.
تدعو إلى الله وهى في هذه الحالة إنها والله الحياة.
فكم من أناس يتحدون الله بعافيته، كم من أناس يتحدون الله بِنَعمِه، وهي التي سلب منها كل شيء ولا تغفل عن الدعوة إلى الله جلَ وعلاَ! تدعو إلى الله بالأشرطة تدعو إلى الله بالصدقة تدعو إلى الله بالإصلاح بين الأطباء والطبيبات، تدعو إلى الله بالإصلاح بين المرضى، لقد استثمرت حياتها كلها لطاعة الله جل وعلا، ولسانها ذاكر، وقلبها شاكر، وجسدها على البلاء صابر.
ذهبت إليها قبل الموت بأربعة أيام، وجلست إلى جوارها، فقلت: كيف حالك؟ قالت: الحمد لله، فأثنيت عليها خيراً فردت عليَّ وقالت: والله -يا شيخ- أنا خائفة على صبري طيلة هذه السنوات، ولكن ادع الله لي أن يرزقني حسن الخاتمة ادع الله لي أن يرزقني حسن الخاتمة.
قلت: أبشري، لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعِثَ عليه، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٠ - ٣٢].
ما أرخصها من حياة إن عشت لشهواتك ونزواتك؟! ما أرخصها من حياة يا من لا تعيش إلا من أجل متاع الدنيا الحقير؟! ما أرخصها من حياة يا من تعيش من أجل كرسيك الزائل ومنصبك الفاني؟! وما أغلاها من حياة يا من بذلت وقتك كله لطاعة الله؟! ما أغلاها من حياة يا من استخدمت كل نعمة من نعم الله التي أنعم الله بها عليك لمرضاته جل في علاه؟!