[عدالة الصحابة في السنة]
تدبروا هذه الأوسمة والنياشين من سيد النبيين صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جلس الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا المجلس مر الناس بجنازة، فأثنوا عليها خيراً -أثنى الصحابة على صاحب الجنازة خيراً- فقال المصطفى: وجبت.
ثم مروا بجنازة أخرى في نفس المجلس فأثنوا عليها شراً.
فقال المصطفى: وجبت.
قال عمر رضي الله عنه: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: الأولى أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض).
إن الذي يزكي ها هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست هيئة مشبوهة علمانية أو ماسونية، بل الذي يعدل الآن هو رسول الله: (أنتم شهداء الله في الأرض).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم) أي: في سبيل الله (مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)! وفي صحيح مسلم عن معاوية بن قرة عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال ونفر من أصحاب النبي -أي: من الفقراء البسطاء- فلما رأوه قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فسمعهم أبو بكر رضي الله عنه فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، يدافع الصديق عن أبي سفيان، ثم انطلق الصديق فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قال وبما قالوا، -اسمع ماذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم- التفت إلى أبي بكر وقال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، فوالله لئن كنت أغضبتهم فلقد أغضبت ربك عز وجل)، لو أغضبت بلالاً وعماراً وسلمان فقد أغضبت ربك عز وجل.
فخاف الصديق صاحب القلب الوجل الرقيق، وأسرع إلى الصحب الكريم وقال: يا إخوتاه أغضبتم مني؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أبا بكر.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت قومك يا نوح؟ فيقول: نعم، فيؤتى بقومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا، ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقول الله جل وعلا لنوح: من يشهد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته -ما رأينا نوحاً وما عاصرناه، ولكنكم شهداء الله في أرض الله- يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: فتدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم، وذلك قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:١٤٣]) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إلى السماء ثم قال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
وروى الترمذي وابن حبان وأحمد والبيهقي وأبو نعيم وغيرهم -وللأمانة العلمية أقول: إن في سنده مجهولاً لكن متن الحديث ثابت صحيح كما ذكرت آنفاً- من حديث عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الله الله في أصحابي! لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه).
وأرى أننا بعد هذه الآيات، وبعد هذه الأحاديث الصحيحة، لسنا في حاجة إلى مزيد بيان عن الصحب الكرام، ومع ذلك فإني مصر على أن أعطر هذا المجلس بكلمات ندية لأسد الله الغالب علي بن أبي طالب، إن الكلام من علي رضي الله عنه في هذا الموطن له مغزى! وقبل أن أذكر كلمات علي، أود أن أحذر الأحبة جميعاً من أن ينتقصوا قدر علي ومن ألا يثبتوا له المناقب التي صحت خشية أن يقعوا فيما وقع فيه الروافض من إطراء بالباطل لـ علي، بل يجب أن نثبت لـ علي مناقبه، ونثبت لـ علي مكانته، فهو أسد الله الغالب، هو الذي قال له المصطفى يوم خيبر لما امتنعت حصون اليهود: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله)، وإلى هنا فإن الأمر عادي، كل أحد من الصحب الكرام يحب الله ورسوله، أمر طبيعي، ولكن اسمع ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، وفي الصباح اشرأبت الأعناق، وتمنى الأبطال القيادة حتى عمر المتجرد التقي المخلص النقي يقول: والله ما تمنيت الإمارة إلا يومها، وفي الصباح وقف الأبطال على أطراف الأقدام ليراهم النبي عليهم الصلاة والسلام، وبعدما نظم النبي صلى الله عليه وسلم الصفوف شق السكون صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن القائد الذي سيدفع له اليوم الراية؛ ليفتح الله عز وجل على يديه، فقال المصطفى: (أين علي بن أبي طالب؟ فبحثوا عن علي فلم يجدوه، فإنه كان يشتكي وجعاً في عينيه، قال: ائتوني به، فأرسلوا إلى علي، فوقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم عينيه فبرأت بإذن الله عز وجل، ودفع له الراية، وأمره أن ينطلق).
فانطلق أسد الله الغالب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ففتح الله على يديه حصون خيبر، وهتف الجميع بما هتف به النبي صلى الله عليه وسلم أول يوم: (الله أكبر! خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين!).
أسأل الله عز وجل أن يخرب حصون اليهود بقدرته إنه على كل شيء قدير، علي بن أبي طالب هو الذي تربى في حجر المصطفى وكفى، أول شبل من أشبال الإسلام يقف خلف النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ويسمع القرآن من فم رسول الله، اضطر يوماً لأن يفخر رضي الله عنه فقال: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي وسبطا أحمد ولداي منها منوط لحمها بدمي ولحمي فأيكم له سهم كسهمي اسمع ما قال علي رضي الله عنه: (سيكون بعدنا أقوام ينتحلون مودتنا، يكذبون علينا، وآية ذلك أنهم يسُبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما) تدبر هذا الكلام النفيس أيها الحبيب الكريم.
لقد ذكروا للإمام مالك بن أنس رجلاً ينتقص بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك بن أنس رضي الله عنه قول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:٢٩].
ثم قال مالك: فمن وجد في قلبه غيظاً على أحد من أصحاب رسول الله فقد أصابته هذه الآية (ليغيظ بهم الكفار) وقال الحافظ الكبير أبو زرعة رحمه الله: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك لأن الرسول حق والقرآن الحق، وما جاء به النبي حق، والذي بلغنا ذلك كله عن رسول الله هم أصحابه) فهؤلاء يريدون أن يهدموا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة، فإن الذي نقل ذلك إلينا هم الصحابة، فإن شكك في النقلة الذين نقلوا إلينا عن رسول الله شككونا بعد ذلك في الدين، فهم يريدون أن يهدموا الصحابة الذين نقلوا إلينا هذا العلم؛ ليبطلوا بهذا التشكيك والتشويه القرآن والسنة، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:٨] فوالله ما من مسلم الآن إلا وهو يعلم الحق، ويعلم الحقيقة، ويعلم من الذي يعمل لدين الله، بل ويعلم من الذي يعمل لصالح هذا البلد، ومن الذي يعمل لتقويض أساسه، ولتقويض بنيانه من القواعد، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم جميعاً من المصلحين الصالحين.
وأختم هذا العنصر بما قاله الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة، يبين في هذه الفقرة معتقد أهل السنة والجماعة في أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول: (ونحب أصحاب الرسول، ولا نفرط في حب أحد منهم، ونبغض من أبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، فحبهم دين وإيمان وإحسان؛ وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).