جاء في الصحيحين: أن امرأة شريفة من بني مخزوم سرقت، فغضبت قريش وحزنت لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يقيم عليها الحد ويقطع يدها، فقالوا: لا، لابد أن يشفع أحد عند رسول الله في هذه المرأة الشريفة حتى لا تقطع يدها فبحثوا: عمن يشفع فقالوا: إنه الحب ابن الحب أسامة بن زيد، فانطلق أسامة بقلب رقيق ليشفع لهذه المرأة المخزومية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟! وارتقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وهو غاضب وقال: أيها الناس! إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
إنه التطبيق العملي للمساواة، وللإنسانية الواحدة! وهذا أبو ذر الغفاري، رجل من غفار أبيض اللون، وهذا بلال الحبشي رجل من الحبشة أسمر اللون، وكلاهما من أصحاب رسول الله الأخيار، حدث بينهما خلاف واحتد الخلاف، فنظر أبو ذر لـ بلال وقال له: يا ابن السوداء! فغضب بلال، وأنطلق إلى سيد الرجال صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما قال أبو ذر، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، والتفت إلى أبي ذر رضي الله عنه وقال:(أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية) -والحديث في الصحيحين- فندم أبو ذر وبكى.
انظر إلى هذا الأفق الوضيء، وإلى هذه القمة السامقة التي جسدت هذا الندم حينما وضع أبو ذر خده على الأرض، واستحلف بلالاً رضي الله عنه أن يطأ بنعله على خده الآخر.
إنه الإسلام، إنها الحضارة الإسلامية!! أيها الأحبة: لو استطردت في ذكر هذه الأمثلة لطالت الوقفة جداً، واسمحوا لي أن أُذَكِّر أيضاً بهذا المشهد، وتمنيت أن لو سمعه كل زعماء الغرب الفجرة، إنه عمر، وما أدراكم ما عمر؟! عمر بن الخطاب الذي رأى قافلة تدنو من المدينة في الليل، فقال لـ عبد الرحمن بن عوف: يا عبد الرحمن! هل لك في أجر الليلة؟ قال: ماذا تريد يا أمير المؤمنين؟ فقال: تعال بنا لنحرس هذه القافلة الليلة!! يقول هذا وهو أمير المؤمنين!! فليسمع العالم كله، ولتسمع الحضارة الغربية الكاذبة هذه النّزعة الإنسانية الفريدة!! ويقوم عمر وعبد الرحمن بن عوف يصليان ويحرسان، وفجأة سمع عمر بكاء صبي في القافلة، فدنا عمر من صوت بكاء الصبي، ثم نادى على أم الصبي وقال: اتق الله وأحسني إلى صبيك.
طفل يبكي فيحرك قلب الحاكم طفل يبكي عند أمه وهي أقرب الناس إليه فيتحرك له قلب أمير المؤمنين.
قلب حاكم الدولة يتحرك لبكاء طفل بين أحضان أمه، لا أقول: بين أحضان القنابل والطائرات والدبابات والرشاشات والغابات، بل بين أحضان أمه! فيقترب عمر ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك، ثم ينصرف لصلاته، وبعد فترة يسمع بكاء الصبي مرة ثانية، فيدنو عمر من الأم ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك، ثم يرجع إلى صلاته، وفي المرة الثالثة يسمع بكاء الصبي فيرجع إلى المرأة ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك فإني أراك أم سوء، فقالت: يا عبد الله! لقد أبرمتني منذ الليلة -أي: لقد أزعجتني، وهي لا تعرف من تخاطب- إنني أفطم الولد عن الثدي كرهاً، فقال عمر: ولم تستعجليه؟ فقالت: لأن عمر بن الخطاب لا يبرم عطاءً إلا لمن فطم عن الرضاعة، فبكى عمر، وانخلع قلبه لهذه الكلمة، وعاد يجر ثوبه وهو يبكي.
يقول عبد الرحمن بن عوف: فما سمع أحد منه قراءة -أي: ما عرف الناس قراءته- في صلاة الفجر من شده بكائه فلما فرغ من صلاته قبض على لحيته وبكى وقال: ويل لـ عمر يا بؤساً لـ عمر كم قتلت يا عمر من أطفال المسلمين؟! كم قتلت يا عمر من أطفال المسلمين؟! فلتسمع الدنيا فليسمع قادة الغرب وليسمع قادة المسلمين.
ثم يأمر عمر بن الخطاب المنادي أن يمشي بين الناس ويقول: لا تستعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نبرم العطاء لكل من ولد في الإسلام منذ أول يوم! إنها عظمة الإسلام إنها الإنسانية الفذة! إنها صورة سامقة مهما أوتيت من البلاغة والفصاحة فلن أستطيع أن أجسد لحضراتكم هذه النّزعة الإنسانية التي جاءت بها حضارة الإسلام، والتي أصَّل قواعدها وأسس بنيانها محمد عليه الصلاة والسلام، وأكتفي بهذا القدر لأُعَرِّجَ على بقية العناصر في عجالة سريعة بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.