الموضوع الثالث وأختم به: رسالة من طبيب يكتبها بدموع الندم إلى بريد الأهرام: بتاريخ (١٥/ ٨/١٩٩٧م) كتب طبيب إلى بريد الأهرام يقول: أنا -يا سيدي! - طبيب سابق بالمستشفى الجامعي بأكبر مدن الصعيد، وأبلغ من العمر خمسة وستين عاماً، وقد ترددت طويلاً في أن أكتب إليك، ثم استجمعت إرادتي لكي أزيح عن كاهلي ما لا أطيق، فلقد نشأت في أسرة فقيرة بل ومعدمة، وكنت أستذكر دروسي في طفولتي وصباي على لمبة الجاز، وتحت عمود الكهرباء في الشارع، وأعمل في الإجازة الصيفية لتدبير نفقات الدراسة، حتى حصلت على بكالوريوس في الطب، ودرست (الماجستير) وحصلت عليه، وتزوجت، وأصبحت لي أسرة صغيرة، وبيت ملائم، واشتهرت كطبيب في مدينتي، وانهمر الرزق عليَّ، وبدلاً من أن أشعر بأحاسيس الفقراء الذين كنت منهم، وأعلم معاناتهم واحتياجاتهم فقد وجدتني أتحول في عملي تدريجياً إلى جزار أو منشار، ينشر هؤلاء البسطاء ويمتص دمهم بلا رحمة وحنان، ويحنو في نفس الوقت على الأغنياء ويتملقهم! وحين أكتب إليك رسالتي هذه الآن يتراءى لي وجه مريض بائس كان يحتاج لإجراء جراحة خطيرة، وطلبت منه قبل أن يدخل المستشفى الخاص بي أن يدفع مبلغاً معيناً، ولم يكن معه سوى نصف هذا المبلغ فقط، فجعل المريض يبكي ويستعطفني ويرجوني أن أرأف بحاله، وأن أقبل منه ما معه من المال، ولكنني أصررت على موقفي بصرامة، وطلبت منه أن يدبر المبلغ كاملاً خلال اثني عشر ساعة وإلا فلن أجري له الجراحة! فهرولت زوجته لتبيع ذهبها القليل وما عندها من ماشية، ورجعت إليَّ بالمبلغ، وبدأت في تحضير المريض للجراحة، فإذا بالمريض يموت قبل أن أجري له الجراحة بنصف ساعة فقط، فلم أفكر لحظة في أن أرد المبلغ لأهله المفجوعين والمعدمين! وإنما كنت أزعم لهم أن المريض قد مات أثناء الجراحة؛ لأستولي على المبلغ كله باعتباره أنه أجر لهذه الجراحة، حتى ولو كانت الجراحة لم تتم أصلاً! كما تتراءى لي أيضاً صورة مريض آخر لم أسمح له بدخول المستشفى الخاص بي، وتركته يدعو الله عليَّ ويرجو الله لي سوء المآل! أما وجه ذلك الطبيب الشاب -أو الذي كان شاباً وقتها- فإنه لا يتراءى لي، وإنما يطاردني بملامحه، وبآخر ما نطق به من كلمات في آخر لقاء بيني وبينه! فلقد كان هذا الطبيب الشاب يستحق التعيين في المستشفى الجامعي الذي أعمل فيه لتفوقه، لكني حرمت هذا الطبيب وحرمت زملاءه الذين يستحقون التعيين في هذا المستشفى بعد حصولهم على الماجستير بلعبة حقيرة، وعينت بدلاً منهم ابني وابن شقيقي وابنة شقيقتي! وجاءني هذا الطبيب الشاب ليقول لي بأنه سوف يرحل عن المدينة كلها؛ ليعمل بإحدى الدول العربية، لكنه يعلم علم اليقين أن الله لن يضيع حقه هدراً، وأنه لن يتركني بلا عقاب، ثم قال لي: ولسوف يجيء اليوم الذي أعض فيه على بنان الندم على ما فعلت به وبزملائه من ظلم! ثم انصرف هذا الطبيب الشاب وأنا أبتسم وأنظر إليه باستخفاف، مترفعاً عن الرد عليه في الظاهر، ومتعمداً ذلك في الباطن؛ لكي لا يضاعف هذا الطبيب من ثورته ومن حنقه عليَّ حتى لا ألقى ما يحرجني من إهانة أمام المساعدين والممرضات.
ومضى الشاب إلى حال سبيله، ونسيت هذا الشاب، ونسيت زملاءه الذين أضعت عليهم فرصة التعيين بالمستشفى سنوات طويلة، ولا أعرف ماذا جرى لهم من خلالها.
يقول: ولعلك الآن تتساءل: لماذا أروي لك هذه الواقعة وغيرها من الوقائع التي قد تسيء إلي وإلى أبنائي وأقربائي إذا تعرفوا على شخصيتي من خلال هذه الرسالة؟ وأجيبك على التساؤل: بأنني لم أعد أهتم بأحد من هؤلاء جميعاً بعد أن تركوني وتخلوا عني! أما لماذا تخلوا عني يا سيدي؟! ولماذا انشغلوا بأنفسهم؟ فلأنني قد مرضت -ويا للعجب! - منذ ثلاث سنوات، مرضت بالمرض اللعين الذي تخصصت في علاج المرضى منه! ومنذ ثلاث سنوات وأنا أسافر للعلاج في الخارج كل سنة، واستهلك معظم ما جمعت من مال خلال سنوات عمري الطويلة، ولو واصلت السفر للعلاج على هذا النحو فلن يمضي أكثر من عام وأصبح بعد ذلك على الحديدة بلا مدخرات ولا مال ولا شيء سوى معاشي كطبيب، وذلك بعد أن تخلى عني أولادي! وبعد أن تخلى عني أبناء إخوتي الذين وضعتهم في مراكزهم وثبتهم فيها.
إنني أكتب إليك هذه الرسالة لأقول لكل من تسول له نفسه أن يظلم غيره: إن الله يمهل ولا يهمل، وإن عقابه شديد، كما أكتبها لك أملاً ورجاءً ودعاءً إلى الله أن يعفو عني، وأن يشفيني، وأن يغفر لي، وأملاً ورجاءً أيضاً لكل من ظلمتهم خلال رحلة الحياة أن يسامحوني فيما فعلت بهم؛ لكي يسامحني الله عز وجل، كما أرجو أن تصل رسالتي هذه عبر بابك إلى أبنائي، لكي يساعدوني ويرعوني في مرضي، وعذراً لأنني لم أكتب لك اسمي؛ لأني لم أستطع ذلك، مع أنني لا أعرف كيف استطعت أن أكتب لك هذه الرسالة! لكني أظن أن الله عز وجل سيكتب لي بعد اعترافي بكل ما فعلت الشفاء، وسيجعل لي مخرجاً من ضيق ذات اليد، وبارك الله فيك وفي أمثالك، والسلام.
وهذه الرسالة لا تحتاج إلى تعليق! أسأل الله عز وجل أن يشفي هذا الرجل، ونحن لا نعرفه، ولكن الله يعرفه، نسأل الله أن يتقبل منه ندمه وتوبته.