للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة العبادة]

العبادة معناها في اللغة: الذل، يقال: طريق معبد، أي: طريق مذلل قد وطأته الأقدام، ولكن العبادة التي أمرنا بها تتضمن إلى معنى الذل معنى الحب، فمن خضع لله تبارك وتعالى بغير حب فليس عابداً لله، ومن ادعى أنه يحب الله دون استسلام لأمره ونهيه فليس عابداً لله، بل العبادة هي: كمال الحب لله مع كمال الذل لله جل وعلا، وهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجيران، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، ودروس العلم، والدعوة إلى الله، والتوكل على الله، والصبر لحكم الله، والشكر لله، والخوف من الله، والرجاء، والتفويض، والتوكل، والاستغاثة، والاستعانة، والإنابة، والابتسامة، والعمل الصادق، كل هذا من العبادة.

فالعبادة تسع الحياة كلها إن صحت النية، وكان العمل موافقاً لهدي سيد البشرية، ومن أعظم الأدلة النبوية على هذه الرحمة الندية ما رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أن أناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الثور بالأجور -أهل الدثور هم أصحاب الأموال-، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم -أي: بما زاد من أموالهم-، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوليس الله قد جعل لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة -أي: في جماع الرجل امرأته صدقة-، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام، أيكون عليه وزر؟ قالوا: بلى، قال: فإن وضعها في الحلال فله فيها أجر).

فالعبادة ليست أمراً على هامش الحياة، بل تسع العبادة الحياة كلها إن صحت النية، وكان العمل موافقاً لهدي سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، فلا تفهم العبادة فهماً جزئياً قاصراً، ولا ينبغي أن نصرف العبادة لله تعالى في شهر دون شهر، وفي زمان دون زمان، بل مقتضى العبودية لله تعالى أن يقول الرب جل جلاله: أمرت ونهيت، وأن يقول العبد المؤمن: سمعت وأطعت، هذا مقتضى العبودية، وهذا شعار المؤمن في أي أرض وتحت أي سماء وفي أي زمان: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥]، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:٣٦]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:٥١ - ٥٢].

أما شعار المنافقين: فهو السمع والعصيان، هو السمع والأعراض، هو الصد عن دين الله وعن عبادته جل وعلا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:٦٠ - ٦١]، فمقتضى الإيمان: أن يسلم المؤمن قلبه وعقله وحياته للمصطفى؛ ليقوده إلى سعادة الدارين بوحي الله المعصوم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:٣ - ٥].

فالمؤمن الصادق ممتثل للأمر، مجتنب للنهي، وقاف عند الحدود في رمضان وفي غير رمضان؛ لأنه يمتثل أمر الله لنبيه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩]، وهذا هو عنصرنا الثالث: لا تفارق العبادة حتى يأتيك اليقين، أي: حتى تلقى الله.