[عاقبة سوء الفهم عن الله ورسوله]
وأنا أقول: والله العظيم ما ضل من ضل ولن يضل من يضل إلا بسبب سوء الفهم لمراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله: سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديماً وحديثاً، وأصل كل خلاف في الأصول والفروع.
ثم قال ابن القيم: وهل أوقع القدرية -النفاة منهم والجبرية- والمرجئة والخوارج والمعتزلة والروافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلا سوء الفهم عن الله ورسوله؟! فالخوارج قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة في حقهم: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم)، وأرجو أن تتصور أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً عليهم رضوان الله يحقر أحدهم صلاته إلى صلاة رجل من الخوارج، كانت جباههم كركب المعز من طول السجود بين يدي الله جل وعلا، ومع ذلك قال النبي في حقهم: (هم كلاب أهل النار) لماذا؟ إنها قضية الفهم.
مر عليهم عبد الله بن خباب بن الأرت -رضوان الله عليه وعلى أبيه- مع امرأته، فسأل الخوارج عبد الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان الخوارج قد كفروا علياً بدعوى أنه حكم الرجال في كتاب الله، والله جل وعلا يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:٥٧].
فانظر كيف يستشهد هؤلاء بالآيات، فلما سألوا عبد الله بن خباب عن علي أثنى عليه بما هو أهله، وأنا أود أن أقول: إننا ندين الله ونتقرب إلى الله مع كل نفس من أنفاس حياتنا بحب علي وحب آل بيت الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، نعم نحب علياً ونحب آل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم، وأهل السنة جميعاً يدينون الله بذلك، والقضية لا تحتاج إلى مزايدات على الإطلاق.
فلما أثنى عبد الله على علي قتله الخوارج وذبحوه كما تذبح النعجة، ثم سألوا امرأته عن علي فأثنت عليه بما هو أهله فذبحوها كما تذبح النعجة وبقروا بطنها واستخرجوا جنينها من بين أحشائها، ومر هؤلاء المجرمون وأيديهم ملطخة بدماء عبد الله وامرأته على حائط للنخيل سقطت بعض تمراته خارج أسواره، فانحنى أحدهم ليلتقط تمرة ليأكلها، فقالوا: مه مه.
ماذا تصنع يا رجل؟! كيف تستحل لنفسك تمرة لم يأذن لك صاحبها؟! وأيديهم ملطخة بدماء عبد الله بن خباب وامرأته.
فسوء الفهم عن الله ورسوله قضية من أخطر القضايا.
وفي مسند أحمد وسنن ابن ماجة بسند صححه شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الجامع من حديث جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله عنهم وعن جميع أصحاب سيدنا رسول الله قال: (كنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: لا ما دمت تقدر على الماء)، وأنا أقول: استدلوا بدليل صحيح؛ لأن القاعدة المتفق عليها تقول: (إذا وجد الماء بطل التيمم)، فـ (بطل) -بفتح الباء- معناه: لا يصح لك أن تتيمم وأنت تقدر على الماء، (فاغتسل الرجل فمات)، فهم أخذوا دليلاً عاماً لمناط خاص فقتلوا الرجل، هذه هي المصيبة، أن يفتي من يفتي دون فهم مناطات الدليل التي لابد منها للربط ربطاً صحيحاً بين دلالات النصوص وحركة الواقع، (فاغتسل فمات، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال).
كم قتل الجهل أناساً بدون حق؟ وكم يقتل؟ وكم سيقتل الجهل أناساً بدون حق؟ (ألا سألوا إذ لم يعلموا).
يا أخي! القضية ليست هوى، بل هي قضية دين، والقضية ليست عواطف بل هي قضية دين، يجب أن تسأل نفسك: هل ربي يأمرني بذلك أم لا؟ هل نبيي يكلفني بذلك أم لا؟ هل ديني يأمرني بذلك أم لا؟ هذا هو المنطلق الذي يجب أن ننطلق منه، لا ينبغي أن تؤثر فينا خيانة أعدائنا ونقض أعدائنا لعهودهم لنخون نحن أو لننقض العهود، أبداً، فالأمر دين.
جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، يقول حذيفة أمين السر النبوي: (ما منعني أن أشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي حسيل إلا أننا خرجنا -يعني: للقتال مع النبي صلى الله عليه وسلم- فأخذنا المشركون -قبض المشركون عليهما- فقالوا: أتريدون محمداً؟ قال حذيفة: فقلت: لا) فالحرب خدعة، والكذب في الحرب جائز بنص حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في الصحيحين، فقال: (لا، ما خرجنا للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال حذيفة: فأخذ المشركون علينا عهد الله وميثاقه أن ننصرف إلى المدينة وألا نقاتل مع رسول الله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم).
هذا محمد صلى الله عليه وسلم يا شباب! هذا إسلامنا يا شباب! نعلنها ورؤوسنا تعانق كواكب الجوزاء، نقول: هذا إسلامنا ولا نخجل أبداً، بل نقول بملء الفم: نحن مسلمون ولا نخجل، ومع كل قولة في ديننا ومع كل أمر ونهي نردده ونقول: مسلمون لا نخجل.
ونعلن للدنيا كلها قول ربنا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩]، فليهلك من هلك، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:٢٩] الآيات، ونعتز بهذا الدين.
فالفهم الفهم، لقد قال صلى الله عليه وسلم في تلك القضية: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي -والعي هو الجاهل- السؤال)، فلا تخجل أخي أن تسأل، بل يجب عليك أن تراجع العلماء، ولا ينبغي للعالم أن يتجرأ على الفتوى في المسائل التي لو عرضت -والله- على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.
أقول -وقد صرحت بذلك في أكثر من لقاء-: هنالك مسائل يتصدر للفتوى فيها الآن عالم أوحد أرى ألا تخرج هذه الفتوى إلا من المجامع الفقهية، لاسيما إذا كانت الفتوى متعلقة بمسألة من المسائل النوازل الكبار.