قد تقول: نحن معك، ونوافقك على أن الله عز وجل غني عن خلقه، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، ولا يزيد في ملكه حمد الحامدين، ولا شكر الشاكرين؛ ولا ينقص ملكه إعراض المعرضين، ولا كفر الكافرين، ولا إنكار المنكرين، ولا جحود المكذبين، إذاً: لماذا أمرنا بعبادته؟! هذا هو عنصرنا الثالث: لماذا نعبد الله؟ والجواب يا إخوة في نقاط محددة أيضاً: نعبد الله عز وجل؛ لأن العبادة حق الله على عباده، ففي الصحيحين من حديث معاذ قال:(كنت دريف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال لي رسول الله: يا معاذ! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟! قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً).
فليس بمستنكر ولا بمستغرب أن يكون لله حق علينا، لكن المستنكر والمستغرب أن نجحد حق الله علينا.
أخي الكريم! لو أتاك الليلة رجل إلى بيتك في جوف الليل وقال لك: أخي في الله! لقد سمعت أنك تمر بضائقة مالية، ثم قدم لك عشرة آلاف ريال، أنا أسألك: هل ستنسى إحسان هذا الرجل إليك طوال حياتك؟! لا والله لن تسنى إحسانه إليك أبداً.
ونحن غارقون من رءوسنا إلى أقدامنا، ومن حياتنا إلى مماتنا في إحسان ربنا، ومع ذلك نجحد إحسانه إلينا، وكن على يقين بأن هذا الرجل الذي أتاك إلى دارك، ما أتاك إلا لإحسان الله سبحانه إليك، من الذي حرك قلبه، ولين مفاصله وجوارحه ليأتيك في بيتك في جوف الليل؟! إنه الله، فتذكر إحسان عبد إليك، وتنسى إحسان خالقك إليك! إننا غرقى في نعم الله وفضله، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[إبراهيم:٣٤].
والله -يا إخوة- لقد دعاني إخوانكم في منطقة المعادي في القاهرة لإلقاء محاضرة، ولجمع تبرعات لصالح إخواننا وأخواتنا في مستشفى الأمراض العقلية، ودعوت الناس لجمع التبرعات، وجمعنا في تلك الليلة مبلغاً يصل إلى خمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات، وأنا أؤكد بأن الناس ما أصيبوا بأزمة بخل، ولكنهم أصيبوا بأزمة ثقة فيمن يدفعون إليهم أموالهم، واشترينا الملابس والطعام والهدايا، وأصر الإخوة أن أذهب معهم إلى إخواننا فذهبت، ودخلنا العنبر الأول وكان للنساء، فجاءت فتاة علمت بعد ذلك أنها خرجت من كلية الطب، فأخذت هذه الغترة وجرت، ثم ألقتها على الأرض، ثم ضحكت، ثم بكت، ثم تركتنا وذهبت إلى ركن من أركان العنبر، وتجردت من ثيابها كيوم ولدتها أمها! وقد من الله عليها بجمال خلقي منقطع النظير، فبكيت والله وكأني لم أبك من قبل، وقلت لإخواني الذين معي: يا إخوة أشهد الله ثم أشهدكم أنني ما فكرت في نعمة العقل إلا في هذه اللحظة، فهل فكرت في نعمة العقل قبل ذلك؟! هل شكرت الله على نعمة العقل؟! كثير منا يظن أن النعمة هي المال فقط، فإن منّ الله عليه بالمال فهو في نعمة، وإن سلب الله منه المال وأعطاه كل النعم فما أنعم الله عليه بشيء! النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن كان أحد السلف إذا دخل الخلاء على قدميه، وطهر نفسه بيده، خرج وهو يقول: يا لها من نعمة منسية، غفل عن شكرها كثير من الناس! دخل ملك من ملوك الدنيا يوماً على ابن السماك الواعظ، وألح عليه في طلب كوب من الماء البارد، فلما أحضر له ابن السماك كوب الماء البارد قال له: أسألك بالله يا سيدي لو منع منك هذا الكوب من الماء فبكم تشتريه الآن؟ قال: والله بنصف ملكي.
قال: أسألك بالله! ولو حبس فيك هذا الماء فبكم تشتري إخراجه؟ قال: بالنصف الآخر.
فبكى ابن السماك وقال: اشرب هنأك الله، وأف لملك لا يساوي شربة ماء.
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:٦]، تجحد إحسان الله إليك، وفضل الله عليك، وأنت غارق في نعمه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}[إبراهيم:٣٤].
إذاً: ليس بمستغرب أن نعبد الله لنوفي حق الله، ولكن المستغرب والمستنكر أن ننكر حق الله! وأن ننكر فضل الله عز وجل، وألا نمتثل أمره، وألا نجتنب نهيه، وألا نقف عند حدوده!