[العيد فرح وآلام]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأطهار الأخيار الكرام، حيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني في الدنيا وإياكم دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته.
واسمحوا لي أن أخص في هذا اليوم العظيم الكريم المبارك صانعة الأجيال ومربية الرجال، التي تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها، اسمحوا لي أن أخصها بالتحية اليوم في عهد غربة الإسلام الثانية.
يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يبغونها للهو واللعب يا حرة قد أرادوا جعلها أمة غريبة العقل غريبة النسب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب فلا تبالي يا أختاه!! فلا تبالي بما يلقون من شبه وعندك الشرع إن تدعيه يستجب سليه من أنا من أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب وما مكاني في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي فدين ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يحجب ولم يغب فاستمسكي بعرى الإيمان واعتزي وصابري واصبري لله واحتسبي حياكم الله جميعاً أيها الأحباب الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً.
اليوم عيد فحق لنا أن نفرح، ولقلوبنا أن تسعد؛ ولكن بأي عيد نفرح؟ وبأي قلب نسعد؟ وفي كل دار على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان إخوتهم فلم يغثهم بيوم الروع أعوان هل هذه غيرة أم هذه ضعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان بأي عيد نفرح؟ وبأي قلب نسعد؟ يا من تحمل بين أضلعك قلباً حياً ينبض بذكر الله ينبض بحب الله ينبض بحب رسول الله ينبض بحب الإسلام بأي قلب تسعد وطفلك وولدك في البوسنة قد شوي على النيران أمام أمه وعلى مرأى ومسمع من أبيه، وبعد ما انتهى الصرب من شيه قطعوه إرباً إرباً، وأجبروا والده المسكين تحت التهديد والتعذيب أن يأكل من لحم ولده أن يأكل من فلذة كبده أن يأكل من ثمرة فؤاده، ثم بعد ذلك أطلقوا عليه النيران فقتلوه؟! بأي عيد تفرح وبأي قلب تسعد أيها المؤمن وأخوك المسلم قد شرد أهله، وهدم بيته، وسفك دمه، ومزقت أشلاؤه؟ وبأي قلب تسعد يا من تحمل بين أضلعك قلباً حياً ينبض بالحياة ينبض بحب الله ينبض بحب رسول الله، وأختك في البوسنة قد انتهك عرضها، وضاع شرفها، وها هي الآن تصرخ وترجوكم رجاءها الأخير؟ أتدرون ما هو رجاؤها؟ رجاؤها يا أولاد الإسلام! ويا شباب الإسلام! أن اقتلوني، واقتلوا العار الذي أحمله بين أحشائي، اقتلوا ولدي الذي حملته من السفاح والزنا، هذا هو رجاؤها الأخير منك يا ابن الإسلام.
يا من تلذذتم بالفراش! يا من تلذذتم بالطعام! يا من أكلتم ملء بطونكم! ونمتم ملء عيونكم، وضحكتم ملء أفواهكم، هذا هو رجاء أختكم الأخير، تنادي عليكم وتقول: اقتلوني واقتلوا العار بين أحشائي اقتلوا ولدي من الزنا! اقتلوا ولدي من السفاح! هذا هو رجاؤها الأخير منكم يا أحفاد محمد! يا أحفاد صلاح الدين! يا أحفاد خالد بن الوليد! هذا هو رجاؤها الأخير بعد ما صرخت علينا طويلاً، حتى انقطع صوتها وهي تنادي وتقول: وا إسلاماه!! وا إسلاماه!! وا معتصماه!! ولكن أين المعتصم؟ ما ثم معتصم يغيث مـ ـن استغاث به وصاح ذبحوا الصبي وأمه وفتاتها ذات الوشاح وعدوا على الأعراض في انتشاء وانشراح يا ألف مليون وأين هم إذا دعت الجراح ما ثم معتصم يغيث مـ ـن استغاث به وصاح بأي عيد تفرح؟ وبأي قلب تسعد أيها المسلم وبرك الدماء، وأكوام الأشلاء تجسد الفجيعة وتحكي المأساة في كل مكان في البوسنة والصومال، في الهند وكشمير، في بورما في تركستان في طاجكستان في أفغانستان في الفلبين في الجزائر في الصومال وأخيراً في اليمن؟ وما زال المشاهدون من جميع أنحاء العالم قابعين في مقاعدهم يشاهدون فصول هذه المسرحية الهزلية المحرقة.
ما زال الجميع قابعاً في مقعده يرى آخر فصول هذه المسرحية، منهم من يبارك هذه التصفية، ومنهم من يبارك هذه الإبادة الوحشية ومنهم من جلس يمسح عينيه بمنديل حريري ولكنه ما زال قابعاً في مقعده؛ لأنه قد أصر على أن يصاحب آخر فصول هذه المسرحية الهزلية: آه يا مسلمون متم قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج تساق يا قطيعاً من ألف مليون رأس يجري عليها السباق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت (وأعدوا) (وأعدوا) من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق ما الذي جرى؟! ما الذي حدث؟! ما الذي جرى لأمة دستورها القرآن؟! ما الذي جرى لأمة قائدها محمد عليه الصلاة والسلام؟ ما الذي غيرها؟ ما الذي بدلها؟! ذلت بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت في ذيل قافلة الإنسانية بعد أن كانت في الأمس القريب تقود القافلة بجدارة واقتدار.
أصبحت أمة القرآن تتسول على موائد الفكر الإنساني بعد أن كانت منارة تهدي الحيارى والتائهين الذين أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلم، وأصبحت أمة القرآن تتأرجح في سيرها لا تعرف طريقها التي يجب عليها أن تسير فيه، وهي التي كانت بالأمس القريب الدليل الحاذق الأرب الذي يسير في الصحراء المتشابكة، وفي الدروب المهلكة التي لا يجيد أن يسير فيها إلا المجربون.
أهذه هي الأمة التي قال الله عنها في القرآن: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:١١٠]؟ أهذه هي الأمة التي وصفها الله بالوسطية، فقال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:١٤٣]؟ أهذه هي الأمة التي وصفها الله في القرآن بالوحدة فقال جل وعلا: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٩٢]؟ والجواب بحق وصدق: إن البون شاسع، وإن الفرق كبير بين الأمة التي زكاها الله في القرآن هذه التزكية وبين الأمة التي نراها الآن في واقعنا المعاصر.
يا أبناء الأمة! إننا نرى الآن أمة قد عطلت جميع طاقاتها العقلية، والعلمية، والعددية، والاقتصادية، بل والروحية.
أصبحت أمة القرآن في الوحل والطين، وتركت ذروة سنام الإسلام، ورضيت بالزرع، وتبعت أذناب البقر؛ فأذلها الله لمن كتب عليهم الذلة من إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود.
لماذا أذل الله الأمة؟ لأن الأمة -أيها الأحباب- تخلت عن أصل عزها، ونبع شرفها، ومصدر كرامتها وبقائها ووجودها، فأصابها الله بهذا الذل وهذا الهوان، وهذا الضعف وهذه الفرقة، وهذا الشتات؛ لأنها تخلت عن أصل عزها، ونبع شرفها، ومعين كرامتها وبقائها ووجودها.