للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدروس المستفادة من الأحداث والمحن عبر التاريخ]

لا أريد أن استطرد مع أحداث التاريخ كلها، ففي كل محنة خير، وفي كل شر خير، ولا يوجد على الإطلاق شر محض، بل في كل محنة منحة، وفي كل ابتلاء دروس، وإن غابت عنا الحكمة فالله يعلمها؛ لأنه هو الذي قدر وقضى بعلم وحكمة.

وإمام أهل السنة: أحمد بن حنبل ما عرفت إمامته إلا بعد محنة فتنة خلق القرآن، وما صار إماماً لأهل السنة إلا بعد المحنة، وما عرف بأنه إمام من أئمة الصبر، وبأنه جبل من جبال الثبات على الحق، إلا بعد المحنة، فالمحن تظهر الرجال، والمحن تظهر المخبوء في الصدور؛ لأن الإنسان في حال الرخاء والسعة قد لا يعرف خبايا نفسه، وقد لا يقف على عيوبها، بل قد يتوهم الكمال، فإذا ما تعرض لمحنة أو ابتلاء ظهرت عيوب نفسه: من الجزع والفزع والهلع، والخوف وعدم الحب لدين لله، فالمحن تظهر الرجال.

ولما تعرض الإمام أحمد للمحنة، وسجن ثلاثين شهراً، وضرب بالسوط، من أجل أن يقول: إن القرآن مخلوق، فقال: ائتوني بآية من كتاب الله لأقول بها، ائتوني بحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدث به، فثبت الإمام حتى صار بعد المحنة إماماً لأهل السنة، حتى قال إمام الجرح والتعديل علي بن المديني رحمه الله تعالى: لقد أعز الله الدين بـ أبي بكر يوم الردة، وبـ أحمد بن حنبل يوم المحنة.

وهذا درس آخر من أحداث التتار لما نزلوا العراق، وأسأل الله أن يكشف هم العراق، وأن يدمر الأمريكان ومن عاونهم من البريطان، فما زالوا يدكون العراق بالطائرات، بل أعدوا العدة لضرب العراق ضربة ساحقة.

لما دخل التتار بغداد، وكانت عاصمة الخلافة، فمنعوا صلاة الجمعة وصلاة الجماعة في بيوت الله جل وعلا، وخشي المسلم من أن يخرج إلى الشارع، ولقد هزم المسلمون يومها هزيمة نفسية نكراء، حتى كان الرجل التتري إذا رأى المسلم في الشارع صرخ فيه وقال: قف مكانك! حتى أرجع إلى داري لآتي بسيفي لأذبحك! فيثبت المسلم في مكانه من الفزع والرعب ولا يتحرك حتى يغيب التتري ما شاء الله له أن يغيب ثم يرجع ليذبح المسلم في مكانه، وهو لم يتحرك من الهزيمة النفسية القاتلة!! لكن هذا كان يحمل من الخير ما الله به عليم، فبهذه المحنة صفت القلوب، وصفت الصفوف، فثبت على الصف الأطهار والأبرار، وخرج من الصف المنافقون والدخلاء، حتى قام المسلمون على قلب رجل واحد، فهزموا التتار شر هزيمة، وعادت عاصمة الخلافة مرة أخرى إلى المسلمين.

ثم جاءت بعد ذلك الحروب الصليبية الطاحنة، واستولى الصليبيون على بيت المقدس، ورفعوا الصلبان على كل أجزائه وأماكنه، ومنعوا الصلاة في المسجد الأقصى واحداً وتسعين عاماً، ولم تصل في المسجد صلاة واحداً وتسعين عاماً! هذه المحنة الشديدة الطويلة صفت القلوب، وغربلت الصفوف، فخرج من الأمة الأطهار والأبطال، وأنا أؤكد تأكيداً جازماً: أن الأمة لا تخلو أبداً من هذه العصابة المؤمنة من أبناء الطائفة المنصورة التي لا يخلو منها زمان ولا مكان، فخرجت هذه الصفوة وهذه الثلة المباركة بقيادة صلاح الدين -أسأل الله أن يزرق الأمة الصلاح؛ لتكون من جديد قادرة على إنجاب مثل: صلاح - فهزموا الصليبيين شر هزيمة، واستردوا المسجد الأقصى، ويومها علّم صلاح الدين الصليبيين الحاقدين درساً من أعظم دروس الإحسان في الإسلام.