[لا تنال السعادة بالمناصب]
قد يظن صنف من الناس أن السعادة الحقيقية في المنصب، والجاه والسلطان، وأنا أقول لكم: قد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة؛ إذا اتقى الإنسان فيه ربه، وعرف أن المنصب والكرسي الذي أجلسه الله عليه أمانة، وعرف أن هذه الأمانة يوم القيامة قد تكون حسرة وندامة، ففي صحيح مسلم أن أبا ذر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ألا تستعملني؟ -لماذا لا تعطيني منصباً أو كرسياً في هذه الدولة العظيمة- فقال له المصطفى بعد أن ضرب على منكبه: يا أبا ذر! إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها).
فالمنصب والمسئولية أمانة، وأستحلفك بالله: أن تتدبر هذا الحديث الذي يرعب القلب لخطره ومسئوليته، والحديث في أعلى درجات الصحة، فقد رواه البخاري ومسلم من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) تدبر أيها المسئول، مهما كانت مسئوليتك، ومهما كان منصبك، أنت في أمانة إن أديتها ربما أوصلتك هذه المسئولية إلى الجنان، إن اتقيت الله وعرفت قدر هذه المسئولية وقدر هذه الأمانة، فإن خان الإنسان هذه الأمانة؛ كان المنصب سبباً في شقائه في الدنيا والآخرة.
لذا نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد ينام ليلاً أو نهاراً، يمر في السوق فيلفت نظره إبل سمينة، فيقول عمر: [إبل من هذه؟ فيرد عليه بعضهم ويقول: إبل عبد الله بن عمر! -وكأن حية رقطاء قد أفرغت كل سمها في جوفه- ائتونِ به، ويأتي عبد الله وهو يرتجف -وأنتم تعملون أن عبد الله بن عمر إمام من أئمة الزهد والورع- فيقول له أبوه: ما هذه الإبل يا عبد الله؟ فيقول: إبل هزيلة اشتريتها بخالص مالي يا أمير المؤمنين، وأطلقتها في الحمى ترعى؛ لأبتغي ما يبتغيه المسلمون من الربح والتجارة، فقال عمر في تهكم لاذع وهو الذي عرف حجم المسئولية وقدر الأمانة، قال: بخٍ بخٍ يا بن عمر، وإذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك، ويربوا ربحك يا ابن أمير المؤمنين، عبد الله! قال: لبيك يا أبتي! قال: اذهب الآن فبع الإبل، وخذ رأس مالك ورد الربح إلى بيت مال المسلمين] لله دره! هؤلاء كانوا يقفون أمام كل لقمة شهية، وثوب جميل، ونعمة، يقفون وهم يرتعدون من الله جل وعلا.
ويقول عمر لنفسه: [ماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر، كنت فقيراً فأغناك الله، وكنت وضيعاً فأعزك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم ولاك الله هذه الأمانة، فماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر؟!!].
فيا أيها الحبيب! مهما كان حجم منصبك، ومهما كانت حجم مسئوليتك فإنها أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة، أما إن اتقيت الله، وجعلت هذا المنصب وسيلة للجنة لتفريج كربات الناس، فلا.
ولا تعقد مصالح خلق الله، ولا تعقد مصالح عباد الله، بل كن مفتاح خير، فإن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، فكن مفتاح خيرٍ بمنصبك، وكن مفتاح خير بكرسيك، واستغل هذا الكرسي لمرضاة الله، ولا تستغل هذا الكرسي لمن أجلسك عليه من العباد، فإن الكرسي ظل زائل، وعارية مسترجعة، ولو دام هذا المنصب لغيرك لما وصل إليك.
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب
والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب
الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب
فقد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، كما أنه قد يكون المنصب سبباً من أسباب الشقاء والهلاك في الدنيا والآخرة.