للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توديع أعظم داعية للدنيا بعد تمام الدين]

بعد حجة الوداع رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ويأتي يوم الإثنين لتبكي المدينة مرة أخرى لا من الفرح ولكن من الحزن، فلقد نام الحبيب صلى الله عليه وسلم على فراش الموت، وخرج في صلاة الفجر والمسلمون يصلون، فكشف ستر غرفة عائشة، ونظر إلى الصحابة ليلقي نظرة الوداع على أحبابه الأطهار الأبرار الأخيار، على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى بلال، وصهيب، وعمار، على هؤلاء الأبرار، وكاد المسلمون أن يفتنوا في الصلاة، فأشار إليهم أن اثبتوا.

لقد أديت الأمانة -يا رسول الله- ولقد بلغت الرسالة، وقد حان الأجل، واقترب موعد لقائك بربك جل جلاله، ويدخل الحبيب بيت عائشة رضي الله عنها وملك الموت في انتظاره صلى الله عليه وسلم، ويزداد الكرب عليه، وتزداد السكرات والكربات، وتدخل زهرته فاطمة الزهراء، فترى الكرب يشتد على أبيها وحبيبها، فتصرخ وتقول: (وا كرب أبتاه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة)، والحديث رواه البخاري.

ويشتد الألم على الحبيب؛ فيأمر بركوة فيها ماء، ويدخل يده في هذه الركوة، ويمسح العرق عن جبينه الأزهر الأنور، وهو يقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات)، وفي رواية أحمد: (اللهم أعني على سكرات الموت)، فتقول عائشة: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، أسندته إلى صدري فرأيته رفع أصبعه السبابة وسمعته يقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، تقول عائشة: فعلمت أنه يخير، وأنه لا يختارنا).

ويقبل ملك الموت على الحبيب صلى الله عليه وسلم لينادي على روح المصطفى: أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض عنك غير غضبان، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠]، وتسقط يد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتخرج عائشة وهي تبكي وتقول: مات رسول الله، مات خير خلق الله، مات إمام النبيين، مات سيد المرسلين، مات الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويقابلها عمر فيصرخ ويشهر سيفه في الناس ويقول: من قال: إن محمداً قد مات لأعلونه بسيفي هذا، رسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن رسول الله وليقطعن أيدي وأرجل أناس من المنافقين الذين زعموا أنه قد مات.

ويأتي الصديق رضي الله عنه ليدخل على حبيبه، ليدخل على إمام الهدى ومصباح الدجى، ليدخل عليه وقد مات صلى الله عليه وسلم، لن يقوم لك رسولك يا أبا بكر، ولن يرحب بك حبيبك يا أبا بكر، فلقد مات الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويدخل عليه في غرفة عائشة، ويكشف البردة عن وجهه الكريم الأنور، ويخر على ركبتيه، ويقبل الحبيب بين عينيه، وفي الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني في مختصر الشمائل أنه نادي على الحبيب قائلاً: (وانبياه، واصفياه، واخليلاه؛ وانبياه، واصفياه، واخليلاه)، وقال كما في رواية البخاري: (أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها يا رسول الله! ولا ألم عليك بعد اليوم).

وخرج الصديق ليعلن هذه الحقيقة الكبرى، لتصل إلى أذن كل سامع، وإلى عقل كل مفكر، فإنه لا يبقى إلا الله الحي الذي لا يموت، خرج وقال: (على رسلك يا عمر! أنصتوا أيها الناس! وتلتف الجموع الملتهبة الباكية حول أبي بكر ليعلن هذه الحقيقة الكبرى: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤]).

اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم وكما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.

اللهم احشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه الأصفى، واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين! أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام، وتمكينه لدين التوحيد، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين.

اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم وفقهم جميعاً للعمل بكتابك، والاقتداء بنبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اقبلنا، وتقبل منا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أحبتي في الله! ما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.

هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا محمد، فإن الله أمركم بالصلاة عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:٥٦].

اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.