للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عبر من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار]

آخا النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل مكة من المهاجرين والأنصار في المدينة، هذا هو العامل الثاني: عقيدة ومؤاخاة، أخوة في الله، آخا بين حمزة القرشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، ومعاذ الأنصاري، وبلال الحبشي، وأنشد الجميع الأنشودة العذبة الحلوة:

أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم

ويجسد لنا عبد الرحمن بن عوف هذه المؤاخاة التي لم ولن تعرف البشرية لها مثيلاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يجسد لنا عبد الرحمن هذه المؤاخاة تجسيداً بليغاً، والحديث في الصحيحين، يقول عبد الرحمن: [آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال لي سعد -وكان من أكثر الأنصار مالاً: يا عبد الرحمن! أنا أكثر الأنصار مالاً، وسأقسم مالي بيني وبينك شطرين، وعندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها].

أسألكم بالله أن تتدبروا في هذا الكلام، فأرجو ألا يمر على آذاننا هكذا، العربي عنده غيرة، وشهامة، ورجولة! فلو قال: سأقسم مالي بيني وبينك شطرين لكان الأمر هيناً، لكن انظر إلى الثانية وما أعجبها وأجملها: [وعندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها].

فقال عبد الرحمن بن عوف: [بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن أين السوق؟] فدله على سوق بني قينقاع فذهب عبد الرحمن فباع واشترى، ثم منَّ الله عليه بالربح، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وعليه أثر صفرة، أي عليه أثر الطيب فقال له النبي: (مهيم) أي: ما لي أشم عليك رائحة الطيب يا عبد الرحمن؟ فقال: [تزوجت امرأةً من الأنصار يا رسول الله! قال: (وما سقت لها) قال: سقت إليها مقدار نواة من ذهب] محل الشاهد ما قاله سعد بن الربيع وما قاله عبد الرحمن؟ فقد يئن الآن كثيرٌ من الإخوة ويقولون: رحم الله زمان سعد بن الربيع، أين من يعطي الآن عطاء سعد؟ وأنا أقول: وأين من يتعفف الآن عفة عبد الرحمن؟ لقد انطلق رجلٌ إلى أحد السلف وقال له: أين من ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، فقال له: ذهبوا مع من لا يسألون الناس إلحافاً.

إن سألت أين من يعطي عطاء سعد؟ سأجيبك: وأين من يتعفف عفة عبد الرحمن بن عوف؟ انظروا إلى هذه الصورة من المؤاخاة، فصدقوني لست مبالغاً إن قلت: لقد حل المهاجرون في قلوب الأنصار وعيونهم قبل أن يحلوا في بيوتهم ودورهم، واستحقوا من الله هذا الثناء الخالد: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:٩].