للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مريم بنت عمران العذراء البتول]

أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز.

أيها الأحبة الكرام! لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل ينسب نبي إلى أمه، إنه عيسى بن مريم عليه السلام، وأمه مريم لها مكانة لم تنلها أنثى في الوجود كله، إنها العذراء التقية النقية التي اصطفاها الله من بين نساء العالمين؛ ليودعها هذا السر الكبير في أعظم ميلاد وأيسر حمل، إنها المرأة التي قد كملت بشهادة المصطفى، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسيا امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، ليعلم الجميع أن مريم عليها السلام ما كرمت في منهج على ظهر الأرض، بل وفي كتاب من الكتب، بقدر ما كرمت في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن هي مريم؟ إنها مريم بنت عمران، أمها: حنى بنت فاخود، كانت عقيمة لا تلد، فسألت الله عز وجل أن يهبها الولد فاستجاب الله لها، وتحرك الحمل في بطنها بعدما كانت عقيمة، فلما تحرك الحمل، أرادت أن تفي بنذرها لله جل وعلا فقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران:٣٥ - ٣٦] أي: الطاهرة {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:٣٦ - ٣٧].

اختلفوا في بيت المقدس من الذي سيكفل مريم عليها السلام، فقالوا: اضربوا القرعة فيما بينكم، فعلى أي واحد منا وقعت القرعة فليكفل مريم عليها السلام، قالوا: فليأخذ كل واحد منا قلمه ولنخرج جميعاً إلى شاطئ النهر، ولنلقي الأقلام كلها في شاطئ النهر، فأي قلم جرى مع التيار لا يكفل صاحب هذا القلم مريم، أما القلم الذي يسير في عكس اتجاه التيار فهو الذي سيكفل صاحبه مريم عليها السلام.

فرأوا قلماً يسير في عكس التيار، فلما أخرجوه وجدوا أنه قلم نبي الله زكريا، فتكفلها زكريا، وتولى تربيتها ورعايتها.

ففي بيت المقدس في كفالة نبي ترعرعت هذه الزهرة الطيبة في بستان الورع والزهد والتقى، نشئت مريم عليها السلام، حتى وصلت إلى مكانة قريبة من الله، ونادتها الملائكة يوماً وهي تتعبد لله: بهذه البشارة: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:٤٢ - ٤٣] مكانة عظيمة، بل لقد وصلت إلى مكانة من القرب أنه دخل عليها نبي الله زكريا فوجد عندها فاكهةً في غير زمانها وأوانها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:٣٧] درجة من اليقين، فما أحوج الأمة الآن إلى اليقين في الرزق ذو القوة المتين.