{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}[القيامة:٢٦] أي: إذا بلغت الروح الترقوة والحلقوم {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}[القيامة:٢٧] من الذي سيرقيه؟ من الذي سيبذل له الرقية؟ من الذي سيبذل له العلاج؟ وهو من هو؟ هو الملك، هو الحاكم، هو الوزير، هو الأمير، صاحب الجاه، صاحب المنصب، صاحب السلطان، يقول هو ومن حوله: أحضروا الأطباء أحضروا الطائرة الخاصة لتنقله على الفور إلى أكبر المستشفيات وأكبر الأطباء.
ولكن إذا اقتربت ساعة الصفر وانتهى الأجل، لا تستطيع قوة على ظهر الأرض ولا يستطيع أهل الأرض ولو تحولوا جميعاً إلى أطباء أن يحولوا بينك وبين ما أراد رب الأرض والسماء:{وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}[النساء:٧٨].
انظر إليه والأطباء من حول رأسه، وقد حانت ساعة الصفر فاصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس، يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يريد أن يتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بكلمة التوحيد، فينظر وهو بين السكرات والكربات إلى الأطباء من حول رأسه، وينظر إلى زوجته وأولاده إلى أحبابه إلى إخوانه نظرة استعطاف، نظرة رجاء، نظرة أمل، نظرة تمنٍ، وهو يقول لهم بلسان الحال بل وبلسان المقال: يا أحبابي! يا أولادي! أنا أخوكم، أنا أبوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي عمرت الدور، وأنا الذي نميت التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا يعلو صوت الحق:{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:٨٣ - ٩٦].
سبحانك! يا من أذللت بالموت رقاب الجبابرة! سبحانك! يا من أذللت بالموت رقاب الأكاسرة! سبحانك! يا من أذللت بالموت رقاب القياصرة! فنقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن رغد المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب، سبحانك:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:٩٦].
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}[القيامة:٢٧] من يرقيه؟ من يبذل له الرقية؟ من يقدم له العلاج؟ من يحول بينه وبين الموت؟ لا أحد.
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}[القيامة:٢٧] تفسير آخر: من يرتقي بروحه بعدما فارقت جسده إلى الله جل وعلا، {مَنْ رَاقٍ}[القيامة:٢٧] من الذي سيرتقي بها من الملائكة {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}[القيامة:٢٨ - ٣٠].