[قصة النصرانيين اللذين أرادا سرقة الجثة النبوية من القبر الشريف]
أختم هذه الأدلة في هذا العنصر الثالث من عناصر لقائنا بهذه الحادثة المفجعة، التي ذكرت في كل كتب التاريخ، والتي أرخت للمدينة المنورة، ذكرت في كتاب تاريخ المدينة المنورة للإمام المراري، وذكرت في كتاب تاريخ المدينة المنورة للإمام المطري، وذكرت في الرياض النضرة لـ محب الدين الطبري، وذكرت في كتاب تاريخ المدينة المنورة للإمام السمهودي، وذكرت في كل الكتب التاريخية التي أرخت لمدينة رسول الله، هذه الحادثة حدثت في السنة السابعة والخمسين بعد الخمسمائة، في عصر السلطان العادل الزاهد الورع التقي محمود نور الدين زنكي، قام هذا الرجل يصلي، فلقد كان الزعماء قديماً يقومون الليل لله.
قام هذا الرجل يصلي، فقرأ ما يسر الله له من القرآن، وصلى ما يسر الله له أن يصلي ثم نام، فجاءه المصطفى في المنام، وأشار المصطفى إلى محمود، ثم أشار إلى رجلين أشقرين، وقال المصطفى لـ محمود نور الدين زنكي: يا محمود! أنقذني من هذين الرجلين، فقام محمود من نومه فزعاً، فتوضأ وصلى، ثم نام، فما أن نام الرجل حتى جاءه النبي مرة ثانية وقال: أنقذني من هذين الرجلين يا محمود، فاستيقظ الرجل فزعاً فتوضأ وصلى وجلس، ثم نام، فجاءه النبي للمرة الثالثة وأشار على نفس الرجلين، وقال: أنقذني من هذين يا محمود، فقام الرجل وقال: والله لا نوم بعد الساعة، وأرسل إلى وزير صالح تقي في بطانته يقال له جمال الدين الموصلي، فجاء جمال الدين الموصلي في جوف الليل إلى السلطان التقي الزاهد الورع، فقص عليه السلطان ما رأى.
فقال له جمال الدين: اخرج الآن يا مولاي إلى مدينة رسول الله، ولا تخبر أحداً لما ذهبت، فخرج في نفس الليلة مع جند من جنده وحمل أموالاً طائلة، وذهب إلى المدينة ووصل المدينة في أسبوعين فقط، ثم زار المسجد النبوي، ثم ذهب للسلام على الحبيب النبي، فلما سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم -أسأل الله أن يرزقني وإياكم زيارة لمسجد حبيبه، وأن يشرفنا وإياكم بالسلام على المصطفى إنه ولي ذلك والقادر عليه- جلس السلطان الورع في الروضة الشريفة يبكي ويفكر ماذا يصنع؟ وماذا يفعل؟ فلما التف الناس حول السلطان من المدينة، قام الوزير الذكي العبقري جمال الدين الموصلي وقال: أيها الناس! لقد أتى مولاي لزيارة المسجد النبوي، وللسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء بأموال كثيرة، وهو يريد أن يوزع هذه الأموال بنفسه على كل فرد من أفراد المدينة، ليرى السلطان الوجوه بنفسه، فجاء أهل المدينة إلى السلطان، وأخذ السلطان يمنح الأموال وينظر ويدقق النظر في الوجوه، فلم ير وجهاً من الوجهين اللذين أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم، ففزع الرجل وقال: ألم يبق أحد؟! قالوا: لا.
يا مولانا، فقال الرجل: لا والله، فكروا وتدبروا.
قالوا: لم يبق أحد والله يا مولانا من أهل المدينة، فقال رجل: يا مولاي! لم يبق أحد إلا رجلين صالحين، وهما غنيان ثريان ينفقان على المسلمين، ولا يحتاجان الصدقة من أحد.
فقال: عليّ بهما، فجاء الرجلان، فلما نظر إليهما السلطان العادل بكى، وقال: اللهم صل على محمد، هما والله هما، هما والله هما، قال: ما شأنكما؟! فقالا: أتينا حاجين، أتينا لنجاور الأسرة النبوية الشريفة، ولنتعبد لله إلى جوار رسول الله، ولنكثر الصدقة والنفقة على فقراء المسلمين.
قال السلطان: أين بيتكما؟ والناس في حيرة ودهشة، ما هذا؟! لماذا يهتم السلطان لمثل هذا الأمر؟! وخرج السلطان بنفسه إلى بيت المجرمين الخبيثين، فدخل الحجرة فلم يجد شيئاً، بل وجد مصحفين، ووجد مسبحتين، ووجد أموالاً طائلة، ولم ير شيئاً يلفت النظر، فسأل عن الرجلين، وأهل المدينة يثنون على الرجلين خير الثناء.
ودخل السلطان غرفة من غرف البيت فوجد حصيراً في جانب البيت، فرفع الحصير فوجد سرداباً تحت الأرض كاد أن يصل إلى قبر المصطفى، فقال: ما هذا؟ قصا عليَّ الخبر.
فقالا: أرسلنا قومنا من النصارى بأموال طائلة لنتظاهر بالزهد والعبادة والورع، ولنحفر سرداباً تحت المسجد، لنصل إلى جثمان محمد لنخرجه من قبره! وظن هؤلاء الخبثاء المجرمون أنهم يستطيعون أن يصلوا إلى الجسد الطاهر، ولكن هيهات هيهات! ففي الليلة التي كادا أن يصلا فيها إلى القبر رعدت السماء وأبرقت، وظهر المصطفى في المنام لهذا السلطان الورع العادل، فلما عرف الأمر ضرب رأس كل واحد منهما تحت شباك الحجرة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وجلس السلطان يبكي بكاءً مريراً لهذا الشرف العظيم الذي شرفه الله عز وجل به، ولم يغادر مدينة رسول الله حتى أمر بصب سور ضخم من الرصاص القوي المتين حول الحجرة النبوية الشريفة كلها، وقد ظن هؤلاء المجرمون أنهم سيصلون إلى الجثمان الطاهر، إلى جثمان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونسي هؤلاء أن الذي حفظ نبيه وهو حي هو الحي الباقي الذي لا يموت، فالله جل جلاله هو الذي يثأر لنبيه ويدافع عن نبيه.
يا إخوتي! والله إني لأستبشر الآن خيراً بعدما وقع اليهود في عرض رسول الله، أستبشر الآن خيراً بعدما سب اليهود رسول الله، أستبشر بقرب الفتح إن شاء الله جل جلاله، فلقد وقفت على كلام كثير لشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الشهير الممتع: الصارم المسلول على شاتم الرسول، قال ابن تيمية: حدثني العدول من أهل الفقه أنهم كانوا يحاربون الروم، ويحاصرون الحصن أو المدينة شهراً أو أكثر فلا يستطيعون فتحه، يقول: حتى إذا وقع أهل الحصن في عرض رسول الله استبشرنا خيراً بقرب فتح الحصن، يقول: فوالله لا يمر يوم أو يومان إلا وقد فتحنا الحصن عليهم بإذن الله جل وعلا، ثم قال: كانوا يستبشرون خيراً بقرب الفتح إذا ما وقعوا في عرض رسول الله، مع امتلاء قلوبهم غيظاً على ما قالوه في حق المصطفى.
ونحن والله نستبشر خيراً بقرب الفتح إن شاء الله، فالله يهيئ الأرض الآن لأمر أراده، الله يهيئ الكون الآن لأمر دبره: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠]، نستبشر الآن خيراً ولكن ليس بالأماني ولا بالكلمات بل بشرط عملي أرجئه إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.