للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفة أخيرة: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا]

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد: أيها الأحباب! يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} [مريم:٨٣ - ٨٤] لا يضيق صدرك بهم يا رسول الله، ولا تستعجل لهم العذاب {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:٨٣] واستمعوا معي إلى هذه الآية التي تحتاج منا إلى خطبة كاملة قال الله سبحانه: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:٨٤] انظروا إلى هذه الدقة البالغة والحساب المحسوب الدقيق {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:٨٤] إن الأعمال محسوبة عليهم، بل إن الأنفاس عليهم كما قال ابن عباس عليه رضوان الله، إنما نعد عليهم ذنوبهم، وويل لمن يعد الله عليه ذنوبه، فإن الواحد منا إذا أحس بأن رئيسه في العمل في هذه الأرض يتابع عمله ويتتبع أخطاءه يعيش في قلق وحسبان، فما بالكم بالواحد الديان.

يا من تراقبون رؤساءكم في الأعمال! يا من تخافون من مديريكم في الأعمال وتنسون رب السماوات والأرض! لا تراقبونه في قولٍ ولا في عمل، أحللتم لأنفسكم الغيبة والنميمة والمعاصي، خفتم الناس ولم تخافوا الله، هبتم الناس ولم تهابوا الله.

يا من تسوفون في التوبة! وترجئونها اعلموا أن الأنفاس معدودة: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:٨٤] إن الأنفاس معدودة ومحسوبة، وفجأة سترون أنفسكم بين يدي الله جل وعلا الذي عد وحسب عليكم كل شيء: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:٨٤].

يا من أكلتم الرشاوي والحرام! يا من ضيعتم الصلاة! يا رواد الفجر في رمضان! أين أنتم؟! أين أنتم يا من ملأتم المساجد في رمضان؟! يا من كنتم تعبدون رمضان! أما رمضان فقد مضى فرب رمضان حي لا يموت، فهل أنتم من عباد رمضان؟ أين أنتم من عبادة الحي الذي لا يموت؟ أين رواد الفجر في رمضان؟ أين رواد المساجد في رمضان؟ أين من كانوا يحرصون على الصلاة في رمضان؟ أين هم؟ أيها المغرور! يا من جئت لتحارب اللحى! يا من لا تجرؤ أن تناقش وزيراً أو أميراً، وجئت لتناقش أمر الله ولتحتج على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم! هل تجرؤ على أن تناقش وزيراً أو تناقش أميراً لتقول له: لم أصنع ذلك؟ ولماذا أفعل ذلك؟ جئت لتحتج على أمر الله ولتناقش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أيها المغرور! يا من غرك منصبك! ويا من خدعك الكرسي الذي جلست عليه! اتق الله جل وعلا، لو أن الكرسي دام لغيرك ما وصل إليك، والله الذي لا إله غيره! لن نتوانى ولن نتورع عن أن نقف بالمرصاد لكل من يحارب دين الله ولكل من يعتدي على شرع رسول الله مهما كانت النتائج؛ لأن رزقنا وأرواحنا بيد الله، لأن الضار والنافع هو الله، فحذار من حرب الله جل وعلا، احذروا من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:٨٤] إن الأنفاس معدودة ومحسوبة، وفجأة سترى نفسك بين يدي الله جل وعلا.

واستمعوا معي بقلوبكم أيها الأحباب الأطهار الموحدون، استمعوا إلى حياتكم لخصها لنا سيدنا زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم جميعاً، لخص لنا سيدنا علي الحياة تلخيصاً بارعاً مرعباً مذهلاً، حيث قال عليه رضوان الله ورحمة الله عز وجل، وأسأل الله تبارك وتعال أن يجزيه عن هذا الكلام خير الجزاء، فإنها بلاغةٌ لا تتوفر لأصحاب رسائل الدكتوراة والماجستير، ولا لأصحاب أدب الحارات والبارات، ماذا قال سيدنا علي عليه رضوان الله ورحمة الله عز وجل قال:

أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني

تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزنِ

ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلنِ

ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني

كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني

وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطبيب هذا اليوم ينفعني

واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون

كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني

وقام من كان أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني

فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني

وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني

وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن

فحملوني على الأكتاف أربعةٌ من الرجال وخلفي من يشيعني

وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني

صلوا عليَّ صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني

وأخرجوني من الدنيا فوا أسفا على رحيلٍ بلا زاد يبلغني

وأنزلوني إلى قبري على مهلٍ وقدموا واحداً منهم يلحدني

وكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني

وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن

من منكر ونكير ما أقول لهم قد هالني أمرهم جداً فأفزعني

وأقعداني وجدا في مسائلتي مالي سواك إلهي من يخلصني

تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني

فلا تغرنك الدنيا وزينتها وانظر إلى فعلها في الأهل والوطنِ

يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني

يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عسى تجازين بعد الموت بالحسن

وامنن عليَّ بعفو منك يا أملي فإنك الواحد الرحمن ذو المنن

أيها اللاهي! أيها الساهي! أيها الغافل! إلى متى تبعد عن طريق ربك؟! إلى متى تحارب مولاك؟! إلى متى تتجرأ على شرع رسولك ومصطفاك؟!

دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب

لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتوه وأنت لاهٍ تلعب

والروح منك وديعةٌ أُودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب

وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب

فالليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب

اللهم لا تخزنا يوم العرض عليك، اللهم أحسن وقوفنا بين يديك، اللهم اختم لنا بالتوحيد والإيمان.