للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[همة الطفيل بن عمرو رضي الله عنه]

وهذا هو الطفيل بن عمرو مثال آخر يأتي إلى مكة ورحى الصراع دائرة بين المشركين وبين رسول الله، ويلتقف جهاز الإعلام الخبيث في مكة الطفيل بن عمرو، يستحوذ هذا الجهاز الإعلامي الذي لا يخلو منه زمان ولا مكان على الطفيل بن عمرو، وقال السادة من الزعماء والكبراء ممن يتحكمون في أجهزة الإعلام التي تشوش وتلبس على الناس عقيدتهم ودينهم: طفيل! إنك قد نزلت بلادنا، وقد ظهر فينا هذا الرجل الذي قد مزق شملنا، وشتت جمعنا، وفرّق بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه، ونحن نخشى أن يحل بك وبزعامتك في قومك ما قد حل بنا في قومنا، فإياك أن تسمع منه كلمة واحدة، أو أن تكلمه كلمة! فإن له كلاماً كالسحر يفرق بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه! قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:٢٦]، وظلوا يحذرون ويخوفون الطفيل حتى عزم الرجل ألا يقترب من رسول الله، فلما غدا إلى بيت الله الحرام ملأ أذنيه بالقطن، حتى لا يسمع كلمة من رسول الله.

يقول الطفيل: فأبى الله إلا أن يسمعني بعض ما يقول محمد بن عبد الله، يقول: فرأيت محمداً في الكعبة يصلي صلاة غير صلاتنا، ورأيتني قريباً منه، وسمعت آيات القرآن التي يتلوها محمد.

ولك أن تتصور القرآن الذي لو أنزله الله على جبل لتصدع وتفتت! لك أن تتصور كيف يكون حال هذا القرآن إن خرج بصوت الحبيب المصطفى الذي أنزل الله عليه القرآن!! تحرك قلب الطفيل، ثم قال لنفسه: ثكلتك أمك يا طفيل!! إنك رجل لبيب عاقل شاعر، لا تعجز أن تفرق بين الحسن والقبيح، اسمع للرجل، لا تحكم على الرجل قبل أن تسمع منه، وقبل أن تجلس بين يديه، وقبل أن تراه، وانطلق الطفيل، وتبع النبي صلى الله عليه وسلم حتى خرج من الكعبة إلى بيته، وأخبره بما كان من أمر قريش، وقال له: يا محمد! اعرض علي أمرك، فعرض النبي عليه الإسلام في كلمات يسيرة قليلة جداً، فقال الطفيل: والله! ما رأيت أحسن من أمرك، وما رأيت أعدل من قولك! ابسط إلي يديك لأبايعك يا رسول الله!! وانطلق الطفيل بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قال الطفيل وهو في موقفه ذاك: يا رسول الله! أرسلني داعية إلى قومي (دوس)؛ فإنهم كفروا بالله، وفشا فيهم الزنا.

ما عندك يا طفيل؟! ما الذي تعلمت يا طفيل؟! إنها المسئولية التي حملها في قلبه مع أول كلمة ينطق بها لسانه لدين الله، ومع أول لحظة حب ووفاء لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ينطق بالشهادة فيعلم أن هذه الشهادة قد أوجبت عليه أن يتحرك لدين الله، لماذا أنت مسلم؟ منذ متى وأنت تصلي؟ منذ متى وأنت تحضر مجالس العلم؟ هل أتيت برجل آخر؟ هل دعوت آخر لدين الله؟ هل نظرت إلى جارك المعرض عن الله جل وعلا فتحسر قلبك ووجهت إليه دعوة لله سبحانه؟ من يحمل هذا الهم؟ لأن قضية العمل لدين الله أصبحت ثانوية هامشية في حس الكثير إلا من رحم ربك جل وعلا، الطفيل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى الفور يستشعر المسئولية لهذا الدين فيقول: أرسلني داعية إلى قومي يا رسول الله! فأرسله المصطفى، ثم قال الطفيل: ادع الله أن يرزقني آية يا رسول الله! فدعا المصطفى ربه أن يرزق الطفيل آية، فما أن وصل إلى مشارف قومه إلا وقد ظهرت الآية التي تتمثل في نور في وجه الطفيل كالقنديل، فقال الطفيل: لا، يا رب؛ حتى لا يقولوا مثلة، حتى لا يقولوا إن الأصنام هي التي فعلت بي ذلك، ولكن اجعل هذا النور على طرف سوطي، فاستجاب الله دعاءه وانتقل هذا النور كالقنديل إلى طرف سوط الطفيل بن عمرو.

وذهب إلى قومه فدعاهم إلى الله، ثم عاد بعد ذلك يقول للمصطفى: يا رسول الله! هلكت (دوس)، ادع الله عليهم! فرفع صاحب القلب الكبير يديه إلى السماء ودعا الله جل وعلا وقال: (اللهم اهدِ دوساً وأت بهم)، فاستجاب الله دعاء المصطفى، وعاد إليهم الطفيل بعد ذلك، ثم عاد بدوس كلها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى رأس دوس راوية الإسلام العظيم أبو هريرة رضي الله عنه، الذي سيأتي مع قبيلة دوس في ميزان الطفيل بن عمرو يوم القيامة، كما ستأتي الأمة كلها في ميزان المصطفى صلى الله عليه وسلم!!