مصيبة الموت في حد ذاتها تشتمل على ثلاث دواهي: الداهية الأولى: سكرات الموت، وسكرات الموت أمر شديد، وأمر فظيع؛ لأن لكل عضو سكرة، ولكل عضو ألم وتألم، فينام الإنسان على فراش الموت وقد اصفر وجهه، وارتعدت جوارحه، واصفر لونه، وبردت أعضاؤه، ينام على فراش الموت فيسلم كل عضو الروح إلى العضو الذي يليه، وتراه قد بردت منه الأطراف، وارتعدت الجوارح، واضطربت الفرائص، واصفر اللون، وتجعد الوجه، واجتمع الأطباء من حوله، وأحضروا له الخبراء والأطباء، وأحضروا له العلماء والأدوية؛ لأنه صاحب الوزارات، وصاحب الأموال والأرصدة، وصاحب العمارات والسيارات، وصاحب المنصب والكرسي، أحضروا له الأطباء من حوله، فهذا يصنع كذا وذاك يفعل كذا من أجل أن يطيلوا في حياته، وأن يطيلوا في عمره! فإذا أفاق من سكرات الموت نظر إلى من حوله، وهو في هذا الكرب والهول؛ نظر إلى زوجه إلى أولاده إلى أحفاده وقال لهم: يا أولادي! لا تتركوني وحدي! ولا تفردوني في لحدي! من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! أنا أبوكم، وأنا أخوكم، وأنا حبيبكم! أنا الذي بنيت القصور، أنا الذي عمرت الدور، أنا الذي نميت التجارة، أنا الذي جمعت ومنعت، ولكن هيهات، قال عز وجل:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:٩٩ - ١٠٠]، كلا! إنها كلمة لا يجيبها الله؛ لأنها كلمة حقيرة خرجت من حقير على الله، كان في دنياه يعاند شرع الله، ويحارب الدعاة، ويتحدى الله جل وعلا، وكانت زوجته تخرج سافرة عارية ولا يمنعها، ولم يصل لله صلاة، ولم يركع لله ركعة، ولم يسجد لله سجدة، ولم يتق الله جل وعلا، ولم يراقبه:(كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)، كلمة حقيرة لا يسمعها الله، ولا جواب لها عند الله جل وعلا، (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
سكرات الموت شديدة، تألم منها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:(لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم النزع كان عنده ركوة فيها ماء، فكان كلما اشتد به النزع وضع يده في الإناء، ثم مسح بالماء على جبهته- أي: على الرشح الذي يخرج من جبينه- ثم يقول: إن للموت لسكرات! اللهم هون علي سكرات الموت)، فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول:(إن للموت لسكرات! إن للموت لسكرات! اللهم هون عليَّ سكرات الموت)، وذكر الإمام المحاسبي عليه رحمة الله أن الله جل وعلا قال لإبراهيم الخليل:(يا إبراهيم! كيف وجدت الموت يا إبراهيم؟ فقال الخليل: وجدت الموت يا رب! كسفود -أي: كقطعة حديد صلبة- بين صوف مبلول، فنزعت فانتزع معها كل شيء، فقال الله: أما إنا قد هونا عليك، أما إنا قد هونا عليك).
وذكر المحاسبي عليه رحمة الله أيضاً:(أن الله قال لموسى: يا موسى! كيف وجدت الموت؟ فقال موسى: يا رب! وجدت الموت كعصفور وضع على مقلاة، فلا هو يطير فينجو، ولا يموت فيستريح)، هذه هي سكرات الموت.
يوم أن نزلت سكرات الموت بـ هارون الرشيد وأفاق من سكراته وكرباته، نادى على من حوله وقال لهم: أريد أن تحملوني لأرى قبري الذي سأدفن فيه بعيني، فحملوا هارون الذي أعطاه الله ملكاً عظيماً، كان يخرج فيرى السحابة في السماء فيقول لها: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري، فوالله لسوف يأتيني خراجك إن شاء الله، أي: أن أي مكان أنزلت أمطارك ومياهك، سوف يخرج هذا الماء الزرع، ويأتيني خراج هذا الزرع من أي البقاع، انظروا إلى عظمة ملكه! فـ هارون لما احتضر قال: احملوني لأرى قبري بعيني، فحملوا هارون إلى قبره فنظر إلى حفرته وبكى، وظل يبكي حتى أبكى من حوله، ثم رفع رأسه إلى الله جل وعلا وقال: يا رب! يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه، يا ألله! يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.