[لزوم الموازنة بين المصالح والمفاسد في إنكار المنكر]
لكن انتبه -يا أخي الحبيب- فالتغيير باليد له فقه وضوابط، وقلت: الأمر لا تحكمه العواطف، ولا تحكمه الغيرة على الدين بقدر ما تحكمه الضوابط الشرعية، التغيير باليد إن ترتب عليه منكر هو أكبر من المنكر الأصلي الذي تريد تغييره، فلا يجوز لك أبداً أن تقدم عليه لتغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يجب على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه.
قال ابن القيم رحمه الله -وعض على هذا الكلام بالنواجذ- في كتابه الماتع (إعلام الموقعين): إن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر من المنكر فهو أمر بمنكر وسعي في معصية الله ورسوله، ولقد كان النبي يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها.
وقد يرد على هذا الاستدلال أن تلك كانت مرحلة استضعاف، والجواب ما قاله ابن القيم، حيث قال: بل لما فتح الله عليه مكة وصارت مكة دار إسلام، وعزم النبي على هدم البيت الحرام ورده على قواعد إبراهيم لم يفعل النبي ذلك مع قدرته على فعله؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهد بكفر وقريبة عهد بإسلام.
هذا هو كلام العلماء، فلابد أن نراجع العلماء.
ولابد من الموازنة بين المصالح والمفاسد، لا تزعم لنفسك -يا أخي- أنك أغير على الدين من غيرك، ولا يجوز لي أن أدعي لنفسي أنني أغير على الدين منك أو من غيرك، من أعطاني هذا الحق؟ ومن أعطاك هذا الحق؟ لابد من الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، وهذا لا يحسنه متهور ولا جبان، المتهور سيضرك بتهوره، والجبان سيضر بخذلانه وسلبيته، لكن ضرر المتهور أخطر، والقضية تحتاج إلى موازنات دقيقة بين المفاسد والمصالح، وخذ مني هذه العبارة، وأرجو الله ألا تنسوها: ليس من الفقه أن نسقط أحكام العز والاستعلاء التي مرت بها الأمة على أوقات الذل والضعف والهوان التي تمر بها الأمة.
فإن قيل: أين الدليل على هذا التأصيل الذي أصلت قلت: الأدلة كثيرة، فكلنا يعلم الشروط الجائرة الظالمة التي قبلها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، والأيام دول يا شباب، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠]، ليس معنى ذلك أن نخضع وأن نخنع، بل يجب أن نعد العدة، كما قال ربنا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠].
لكن ليس من الحكمة أبداً أن أقوم العمود الصخري وأنا مصر على أن أحطمه برأسي، سيتحطم رأسي ويبقى العمود صامداً شامخاً كما هو، فلا ينبغي أن نسقط أحكام العز والاستعلاء على الأمة في وقت الضعف والذل والهوان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب في الحديبية -والحديث في الصحيحين-: اكتب -يا علي - بسم الله الرحمن الرحيم.
فيعترض رسول قريش على البسملة، ووالله لو فعل هذا الآن لطاشت عقولنا، ورسول الله بين أظهر الصحابة، يقول سهيل بن عمرو: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم.
فيقول الصحابة: والله لا نكتبها إلا (بسم الله الرحمن الرحيم)، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب -يا علي - باسمك اللهم).
فهذا هو النبي عليه الصلاة والسلام، واعلم -يا أخي- أن السيرة ليست قصة فقط؛ لأن كثيراً من الناس يسمع الآن السيرة ويخرج وكأنه قد استمع إلى قصة أبي زيد الهلالي، أو إلى قصة عنترة وينسى أن هذا منهج تربوي كامل.
(اكتب -يا علي - باسمك اللهم)، فيكتب (باسمك الله).
ثم قال: (اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل بن عمرو: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
فيقول النبي لـ علي: يا علي! امح (رسول الله)) أي: امسح كلمة (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله).
فيقوم سيدنا علي ويقول له: لا والله، والله لا أمحوك أبداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرني يا علي!)، لأن النبي كان لا يقرأ عليه الصلاة والسلام، فيطلب النبي صلى الله عليه وسلم من علي أن يشير له إلى موضع الكلمتين الكريمتين، فيمحو النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه (رسول الله).
ثم قال: (اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله قريشاً: أن تخلي بيننا وبين البيت لنطوف به.
قال: لا والله لا تدخلونه هذا العام؛ حتى لا تتحدث العرب أنا قد أخذنا ضغثة -يعني: دخلتم رغم أنوفنا-، ولكن اكتب ذلك من العام المقبل.
فقال النبي: اكتب يا علي: وذلك من العام المقبل)، وبدأ سهيل بن عمرو يقول: اكتب يا علي! ثم يقول سهيل بن عمرو: (ونصالحك على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا.
وكل بند لا يطاق، لكن كان هذا خطيراً جداً، فالمسلمون قالوا: سبحان الله! يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً! إلى آخر القصة المعروفة.
فأنا أرجو من شبابنا أن يكون فاهماً، وأن يكون على بصيرة، وأن يعلم أن الأيام دول، إن مرت الآن الأمة بمرحلة استضعاف فقد مرت الأمة بمرحلة طويلة جداً من التمكين والعز، فلا ينبغي أن نيأس أبداً أو أن نقنط أو أن نستسلم أو أن نصاب بالهزيمة النفسية.
فلئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائع حرة رغم المكائد تخرج