[حال الناس يوم العرض على الله]
يا من ملأت بطنك بالمال الحرام! ويا من لبست على جسدك من اللباس الحرام! ستخرج من قبرك يوم القيامة حافياً عرياناً، (يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً) كما قالت عائشة والحديث في البخاري ومسلم، فقالت: (يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر كلٌ منهم إلى الآخر قال: يا عائشة إن الأمر أكبر من أن يهمهم ذلك) وفي رواية الإمام النسائي قالت عائشة: (الرجال مع النساء يا رسول الله! فكيف بالعورات؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة لكل امرئ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه) {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٣ - ٣٧].
فيقف الناس يبكون بالدموع حتى تنقطع الدموع، فيبكون دماً ينتظرون، وفجأة يرون أهل السماء من الملائكة ينزلون ليقفوا معهم في أرض المحشر، في الأرض التي أعدها الله للحساب، أرضٌ غير هذه الأرض {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:٤٨] {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:١٠٤] ينزل أهل السماء الأولى بضعفي من في الأرض، ثم الثانية، فالثالثة، فالرابعة، فالخامسة، فالسادسة، فالسابعة على قدر ذلك من التضعيف، فلما ينظر الناس إلى أهل السماء الأولى من الملائكة، مخلوقات عجيبة، مخلوقات جديدة تراها لأول مرة، فيقول الناس للملائكة: أفيكم ربنا؟ فتقول الملائكة: سبحانه! كلا.
وهو آت، آتٍ إتياناً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك.
ثم تنزل حملة العرش بكرسي الملك حيث شاء الله، وحيث أراد الله، يتنزلون ولهم تسبيح وتحميد، يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان من كتب الفناء على خلقه ولا يموت، قدوسٌ قدوسٌ قدوس، رب الملائكة والروح.
ويتنزل الملك ويستوي الملك على كرسيه استواءً لا تدركه العقول ولا تكيفه الأفهام {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:١٠٨] لا ينطق مخلوق، ولا يجرأ على الكلام أحد، إنما هو همس فقط {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:١٠٨] وفجأة يشق هذا السكون، وهذا الذهول، وهذا الموقف صوت الملك ينادي على الخلائق من الإنس والجن ويقول: يا معشر الإنس والجن! لقد أنصت إليكم كثيراً في الدنيا فأنصتوا اليوم إلي، لا ينطق أحد، لا يتكلمون {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:٣٨].
يا معشر الجن والإنس! لقد أنصت إليكم كثيراً في الدنيا فأنصتوا اليوم إلي، ثم ينادي الحق بعدها ويقول: (إنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) ويأمر الله جهنم فتُخرج عنقاً أسود مظلماً، وينادي الحق جل وعلا قائلاً: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس:٦٠ - ٦٤].
وفي واحة هذا الموقف فجأة: أين فلان ابن فلان، أين فلان ابن فلان؟! من؟! هذا هو اسمي؟! هل أنا صاحب هذا النداء؟! هل أنا صاحب هذا الدعاء؟! ماذا تريدون؟! أقبل إلى عرش الواحد الديان.
فتتخطى الصفوف صفوف الإنس والجن والملائكة، تتخطى هذه الصفوف، وفجأة ترى نفسك واقفاً أمام محكمة أحكم الحاكمين، تلكم المحكمة التي لا تقبل رشوة، ولا محسوبية، ولا محاماة، ولا تقبل الاستئناف للأحكام؛ لأن قاضيها هو الواحد الديان، عنوانها: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:١٧] فتُعطى صحيفتك، هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأةً أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة قلبك في وقتها على ما فرطت من طاعة ربك، فإن كنت من السعداء الفالحين أخذت كتابك باليمين، وإن كنت من الأشقياء الهالكين أخذت كتابك بغير اليمين والعياذ بالله، وصدق الله إذ يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:١٩ - ٣٣].
وصدق الله إذ قال: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:٣٩] وهل هناك حسرة أبشع وأشد من هذه الحسرة؟ أسأل الله تبارك وتعالى أن ينجينا وإياكم من هول هذا اليوم، وأن يجعلنا وإياكم ممن {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:١٨].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.