تمت البيعة الثانية، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته الصابرة الحكيمة أن يؤسس للإسلام -ولأول مرة- وطناً وسط صحراء تموج بالكفر والشرك والجهالة، وبدأت طلائع الهجرة المباركة للمقهورين والمعذبين في مكة، وبدءوا يصلون إلى المدينة المنورة زادها الله تشريفاً وتكريماً.
وهنا أحس المشركون -لأول مرة- بالخطر العظيم الذي صار يهددهم بصورة جلية واضحة، وعقد البرلمان الشركي اجتماعاً طارئاً، وهو أخطر اجتماع في التاريخ، وأصدروا قراراً بالإجماع للقضاء على حامل لواء دعوة التوحيد، وللتخلص من محمد بن عبد الله؛ لقطع تيار نور التوحيد عن الوجود بأسره، ولكن:{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:٢١]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:٣٠]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:٨].
وهل تستطيع الطحالب ولو اجتمعت أن توقف سير البواخر العملاقة؟! وهل تستطيع الأفواه ولو اجتمعت أن تطفئ نور الله جل وعلا؟! وهل يضر السماء نبح الكلاب؟! ويخرج الحبيب من بين أيديهم وأمام أعينهم:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}[يس:٩]، {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:٤٠]، يخرج الحبيب وصاحبه تحت رعاية الله وتحت عين الله جل وعلا، ومن كان الله معه فمن ضده؟! ومن عليه؟! ووصل الحبيب وأصحابه إلى المدينة المنورة، إلى وطن الإسلام الجديد، واستقبلته المدينة استقبالاً بينت حقيقته تلك الدموع التي سالت على وجوه الرجال والنساء والأطفال، إنها دموع الفرح بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.