واقع ينزف طفل لا يعرف أين ذهب أبوه! ولا أين ذهبت أمه! ولا أين ذهب إخوانه! طفل في الثانية من عمره ينظر إلى السماء التي حولها السلاح الأمريكي في أيدي اليهود إلى نهار مضيء فيتساءل: ما هذه الأنوار في جو السماء في ظلام الليل الدامس؟! ما الذي حول سماء فلسطين المظلمة إلى نهار وأنوار متأججة متوهجة وهو لا يدري أن الصواريخ والطائرات والدبابات والمدافع قد حولت هذا الظلام الدامس الحالك إلى نار مضيئة!! ثم ينظر فيرى أشلاء أمه تتناثر! ويرى أشلاء أبيه تتمزق! ويرى دماء إخوانه تنساح في كل واد! فيخرج الطفل مذعوراً مفزوعاً يخرج إلى الشوارع والطرقات! فيرى جندياً يهودياً يقابله بهذا المدفع الرشاش أو بهذه الدبابة! بل بأرتال من الدبابات والمجنزرات! حتى لم يبق اليهودي على بيت، ولا يبقى رجلاً ولا امرأةً ولا طفلاً يحمل حجراً في يده؛ لأنه ما زال يقدر على حمل الحجر في يده! دكوا مخيم جنين وسووا هذا المخيم بالأرض، وانبعثت رائحة -لا أقول رائحة الجثث- بل رائحة الخيانة خيانة العالم الغربي خيانة العالم العربي خيانة زعماء العالم كله في الداخل والخارج في الشرق والغرب.
لا أقول انبعثت روائح جثث إخواننا من الشهداء -أسأل الله أن يتقبلهم عنده في الشهداء- بل انبعثت روائح الخيانة.
من أين؟! من تحت الأنقاض! من المقابر الجماعية! ما الذي فعله العالم إلى الآن؟ لم تستطع قوة على وجه الأرض أن تحصر عدد القتلى أو عدد الشهداء؛ لأن اليهود دكوا المخيم دكاً في تسعة أيام متواصلة وسووه بالأرض! ودفنوا الجثث في مقابر جماعية وأهالوا على هذه الجثث الزكية من رجال ونساء وأطفال التراب.
ولقد وصل بالأمس مبعوث الرمم المتحدة في الشرق الأوسط، وصرح تصريحات واضحة، وقال: إن ما حدث في مخيم جنين فاق كل التصورات، قال: حتى شممت رائحة الجثث في الشوارع في الطرقات، بل ورأى -على حد تعبيره- مجموعة من الفلسطينيين ما زالوا إلى يومنا هذا يستخرجون الجثث من بين الأنقاض.