[وقفة مع قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو)]
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:٢٥٥] إنها الحقيقة الأولى في هذا الوجود التي يشهد بها وعليها الكون كله، من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه، قال الله جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٦٤].
إنها آيات توحد الله جل وعلا، وتنطق بوحدانية الله جل وعلا
ففي كل شيء له آية تدل على أنه هو الواحد
{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٣٣ - ٤٠].
وقال الله عز وجل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [النمل:٦٠] استفهام استنكاري {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:٦٠].
وبعد توحيد الربوبية الذي أقر به المشرك الأول، ينتقل الحق جل وعلا من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية الذي لا بد منه، بل والذي لا ينفع توحيد الربوبية بدونه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:٦٠ - ٦٥].
الله ربي لا أريد سواه هل في الوجود حقيقة إلاه
الشمس والبدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت الصخور الصمِّ قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه
والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه
...
سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذي الصحاري والجبال الرواسيا
سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والأصداح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا
ولو جن هذا الليل وامتد سرمدا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
أإله مع الله، لا رب غيره ولا معبود سواه.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:٢٥٥] إنها الحقيقة الأولى في هذا الوجود التي يشهد بها وعليها الكون كله من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه، ورحم الله الإمام أحمد يوم أن أمسك البيضة بين يديه يوماً وقال: هاهنا حصنٌ حصين أملس، ليس له باب وليس له منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جداره، وخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن وصوت مليح.
في كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
يا أعرابي! يا من تربيت في مدرسة الفطرة، ما الدليل على وجود الله؟ قال: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا يدل ذلك كله على اللطيف الخبير؟ ومن أروع ما قاله المفكر والفيلسوف سيسل هامان قال: إن الإنسان إذا ما اكتشف قانوناً في هذا الكون يصرخ هذا القانون قائلاً: إن الله هو خالقي، وليس الإنسان إلا مكتشفا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:٥٣].
أيها الأحبة! إن الإقرار بأن الله جل وعلا هو الخالق، وهو الرازق، وهو المدبر، وهو المحيي، وهو المميت، يجب على من أقر لله بذلك أن يصرف العبادة بركنيها من كمال الحب والذل إليه، وبشرطيها من إخلاص واتباع إليه، أما أن نقر لله بالخلق والرزق والأمر والتصريف والتدبير، وأن نصرف العبادة لأحدٍ مع الله، أو لأحدٍ من دون الله فهذا شرك بالله جل وعلا، ومن ثم إذا وجهنا العبادة لله جل وعلا وجب علينا أن نستمد تشريعنا من الله جل وعلا وحده، فليس من حق هيئة، أو سلطة، أو مجلس نيابي، أو برلماني، أو دولة أن تشرع للبشر من دون الله جل وعلا: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:٣٩ - ٤٠] لا لهيئة، ولا لدولة، ولا لمجلسٍ شعبي، ولا لمجلسٍ شوروي، ولا لبرلمان، ولا لأحدٍ على ظهر هذه الأرض أن يشرع للخلق من دون الله جل وعلا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:٥١].
أما المنافقون فهم الذين -والعياذ بالله- يعرضون عن حكم الله، ويعرضون عن شرع الله، ويعرضون عن منهج الله، ويعرضون عن سنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن أول حق لله علينا أن نوحده توحيداً شاملاً، توحيداً كاملاً، أن نقر له بتوحيد الربوبية، بل وبتوحيد الألوهية، بل وبتوحيد الأسماء والصفات، بل وبتوحيد الحاكمية، فإن من أعظم مفاهيم كلمة التوحيد أن يكون الحكم لله جل وعلا لا لأحد سواه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٤٠].
فإذا أقر المسلم لله بالخلق والرزق لا يجوز له ألبتة أن يذهب حراً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج والقوانين والأوضاع التي هي من صنع البشر، بل من صنع المهازيل من البشر من الشيوعيين، والعلمانيين، والديمقراطيين، والزنادقة، والفجرة، والفسقة الذين تتحكم فيهم الأهواء والشبهات والشهوات، وأن يترك شرع الله وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:٢٥٥] أن نقر لله بالتوحيد، وهذا هو أول حق لله علينا، كما في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال لي رسول الله: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).
أيها الحبيب! هذا هو حق الله عليك، أن تعبد الله جل وعلا، وأن توحد الله جل وعلا، وأن تصرف العبادة بركنيها وبشرطيها لله جل وعلا؛ لأن الذي خلق، والذي رزق، والذي أبدع هو الذي يستحق أن يعبد: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:١ - ٤] لا نظير له، ولا شبيه له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا مثيل له: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١].
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥] الحي الذي لا يموت {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:٨٨] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧].
إذا ما أمر الل