للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بعض الدروس المستفادة من الأحداث الجارية على الأمة الإسلامية في هذا العصر]

والمحنة التي تمر بها أمتنا الآن في فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان وفي الفلبين وفي طاجاكستان وفي العراق وفي الجزائر وفي السودان وفي اريتريا وفي كل مكان، أقول -بعد هذا السرد التاريخي السريع- بملء فمي وأعلى صوتي: لا تحسبوا هذه الفتن شراً لكم، بل هي خير لكم، وإن ظن البعض أنه لا خير؛ لأن الدماء تسفك، والأشلاء تمزق، والقدس في أيدي اليهود، والشيشانيون يذبحون، والمسلمون في كشمير يذبحون إلخ.

ولكن كما قال الله: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وأستطيع أن أستخرج بعض دروس الخير من هذه الفتنة الحالقة الطاحنة، وأنا أقر بأنها طاحنة وبأنها قد طالت، فبعد زوال ظل الخلافة لم تزل الأمة في محنة، ومما يزيد الألم في القلب: أن الأمة في الماضي كانت مع كل محنة تملك جل أو كل مقومات النصر: من إيمان صادق بالله، وتوكل عليه، واستعانة به، وإعداد للقوة على قدر الطاقة، وبهذا تكون الأمة قد نفذت أمر الله، وامتثلت شريعته، لكن الذي يزيد الألم الآن في القلب: أن الأمة قد نحت شريعة الله بالجملة، ولم تعد تثق في الله كثقتها في أمريكا أو في أوروبا! بل ما زالت الأمة الآن -على ألسنة زعمائها- تردد وتتغنى بالدور الأمريكي، وبراعية السلام في المنطقة! وبالاتحاد الأوروبي! وبالحلف الأطلسي! وبالبيت الأبيض! وبالبيت الأحمر! فالأمة الآن تثق في أمريكا وفي بعض الدول أكثر من ثقتها برب السماء والأرض! وهذا مما يزيد المحنة أسىً، وأنا لا أنكر ذلك، ولكنني ومع كل ذلك أذكر بقوله تعالى: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فإن قلت أين الخير؟! فأقول: تدبر معي! لقد شاء الله جل وعلا في هذه المحنة الأخيرة الطاحنة أن يظهر للعالم كله حقيقة الغرب، وسقطت ورقة التوت، التي طالما وارى بها الغرب عوراتهم وسوءاتهم، وتمزقت خيوط العنكبوت التي طالما وارى بها النظام الغربي وجهه الكالح الغشوم، فسقطت ورقة التوت، وتمزقت كل خيوط العنكبوت، وأظهرت المحنة الأخيرة بعد زوال ظل الخلافة، وبعد وضع الغدة السرطانية الخبيثة المعروفة بدولة اليهود في قلب فلسطين الحبيبة، أظهرت المحنة النظام الغربي على حقيقته، وقد كنا منذ سنوات قليلة جداً نسمع في إعلامنا، ونقرأ على صفحات الجرائد لأقلام تعزف على وتر التصفيق والتشييد للغرب، فشاء الله تبارك وتعالى أن تظهر المحنة حقيقة الغرب، وأن الغرب الكافر لن ينصر توحيداً قط؛ لأن الكفر ملة واحدة، وصدق ربي إذ يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:١٢٠]، وصدق ربي إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:١].

والمؤمن لا يحتاج إلى هذا الواقع ليصدق به كلام الله، ولكن الواقع المر يظهر الحقائق لأصحاب القلوب القلقة المتشككة، فقد ظهر النظام الغربي على حقيقته، وظهرت حقيقة البيت الأبيض، وظهرت حقيقة هيئة الأمم، وظهرت حقيقة الحلف الأطلسي، وظهرت حقيقة مجلس الأمن، وظهرت حقائق هذه الأحلاف والمنظمات والهيئات، وعلم المسلمون بل والعلمانيون أن القضية لن تحلها أمريكا، ولن تحلها أوروبا أبداً! هذه الفتنة أظهرت كل هذه الحقائق، وبدون هذه المحنة لم يكن قد ظهر شيء من هذا على الإطلاق، ولقد انتبه غافل قومنا من المسلمين إلى أن الغرب الكافر لا ينصر لله ديناً، ولا ينصر للأمة قضية، وأظهرت المحنة حقيقة الزعماء، وحقيقة كثير ممن يدعي أنه يحب الإسلام، بل أظهرت حقيقة من يدعي الوطنية، وأظهرت هذه المحنة حقيقة الوطنيين، فما أودى بالأمة إلا وطنية مشئومة، وما أودى بالأمة إلا عصبية منتنة، ولكن المحنة أظهرت كل هذا، وأظهرت المحنة أيضاً حقيقة كثير من العلماء ممن سقطوا فزوروا الفتاوى من أجل كرسي أو منصب زائل، وأظهرت المحنة أيضاً كثيراً ممن كان يتغنى بحب الجهاد، ولكنه يبخل بدعوة لإخوانه فضلاً عن جهاد بماله! فأظهرت الأزمة للأمة هذه الحقائق.

وأظهرت الأزمة أيضاً: أن محمداً ما مات، وما خلف بنات، بل خلف رجالاً، بل إن الأطفال على أرض فلسطين قد سطروا المعجزات، ورب الكعبة! لقد صرت أحقر نفسي إلى جوار طفل على أرض فلسطين، فماذا أفعل؟! وماذا يصنع مثلي؟! نتكلم ولكن لا ينفع الكلام، ونناظر في التكليفات الباردة، وما أيسر التنظير! نشاهد الدماء كل يوم تسفك، والأشلاء كل يوم تمزق! وبعدها بلحظات نأكل ملء بطوننا، وننام ملء جفوننا، ونضحك ملء أفواهنا، وإذا خرج أحدنا في مظاهرة صاخبة عاد وهو يتصور أنه قد فتح القدس، وقد أدى كل ما عليه لله! والله! لقد صرت أحقر نفسي إلى جوار طفل صغير في الخامسة أو في السادسة من عمره على أرض فلسطين، طفل لا يجد أمامه إلا حجراً يواجه به عصفوراً يواجه به كلباً! بل يواجه به أعتى كلاب الأرض يواجه به أشد الخنازير! يواجه به طائرات في السماء! يواجه به دبابات في الأرض! يواجه به رصاصاً حياً! طفل يمسك حجراً يريد الشرف يريد الكرامة يريد العزة للأمة المسلوبة الجريحة، طفل علم الرجال الكرامة طفل علم الرجال الرجولة طفل علم الزعماء البطولة طفل علم القادة حقيقة التضحية والفداء!! فما ظهر هذا الخير إلا بعد هذه المحنة، ظهر شباب على أرض القدس يريد أن يضحي بنفسه لله جل وعلا.

ويوم أن خرج أمناء جبل الهيكل المزعوم في يوم الأحد لوضع حجر الأساس، نادى طفل القدس على المسلمين في القدس: أن احفظوا المسجد الأقصى، وحولوا بين اليهود وبين بيت الله، فخرج المسلمون الأطهار بعشرات الألوف من كل أنحاء فلسطين، ولم يخرجوا في صباح يوم الأحد بل خرجوا ليلة الأحد، فباتوا في بيت الله جل وعلا، باتوا في المسجد الأقصى وكلهم يشتاق للقاء الله، وكلهم يريد أن يضحي بجسده وبروحه وببيته وبماله من أجل بيت الله جل وعلا، ولم تستطع العصابة اليهودية المتطرفة أن تضع الحجر في ذلك اليوم، ولم تتمكن من ذلك بفضل الله، ثم بفضل هذه الثلة الكريمة التي علمت الدنيا كلها: أن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف أطهاراً أبراراً، تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة، ويتمنى أحدهم أن لو ضحى بنفسه لنصرة دين الله جل وعلا، وأن لو بذل كل دمه لحماية المسجد الأقصى من براثن اليهود المجرمين، فـ (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).