ثم العبادة تعني الحياة كلها، فالصلاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والصدقة عبادة، والعمرة عبادة، ووقوفك في متجرك للبيع والشراء وللكسب الحلال مع تأديتك لحق الكبير المتعال عبادة.
فسعيك على رزقك لأولادك عبادة بشرط أن لا يشغلك رزقك عن حق الله، فلا تقف بالمحل وأنت تسمع الأذان، ويأتيك رجل بعد الآخر فلا تخرج للصلاة! ثم تقول: يا شيخ! العمل عبادة، نعم، عملك عبادة، وأنت تسعى على الرزق الحلال، لكن إن حال هذا العمل بينك وبين أداء حق الكبير المتعال فبئس العمل عملك! وابتسامتك لي عبادة، وابتسامتي في وجهك عبادة والتفويض عبادة، والإنابة عبادة، والخوف عبادة، والاستعانة عبادة، والبكاء من خشية الله عبادة، وبر الوالدين عبادة، وإحسانك للجيران عبادة، وصدقك في القول والوعد والعهد عبادة، وإتقانك لعملك عبادة، وإحسانك لزملائك ومرءوسيك في العمل عبادة.
فالعبادة تسع الحياة كلها، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه:(جاء أناس للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الدثور: أصحاب الأموال والغنى- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: أوليس الله قد جعل لكم ما تصدقون به، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة -أي: في جماع الرجل امرأته صدقة- قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: بلى قال: ولو وضعها في الحلال فله بها أجر).
فالعبادة تسع الحياة كلها بشرطين: الأول: أن تصح النية.
والثاني: أن يكون العمل على هدي ومنهج سيد البشرية.
حينئذ كل عمل من الأعمال الظاهرة والباطنة يندرج تحت العبادة، فلا تعارض البتة بين قولنا في أول اللقاء: تحقيق التوكل أن نأخذ بالأسباب، وأن نعلق قلوبنا بمسبب الأسباب، وبين قول الله في الحديث القدسي:(يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً).
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة وأبو داود بسند حسنه الألباني في صحيح الجامع من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من جعل الهموم هماً واحداً: هم المعاد -أي: هم الآخرة- كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله به في أي أوديتها هلك).
وفي رواية الترمذي بسند صحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من كانت الآخرة همه: جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه: جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له).