[حب النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته في قلوب السلف]
وأختم بهذه الصورة المشرقة السريعة التي تبين كيف كانت محبة النبي في قلوب الأطهار الأبرار الأخيار؟ تدبر هذا المشهد أيها الحبيب! إنه المغيرة بن شعبة عند أن كان يقف ليظلل على رأس النبي من الشمس في الحديبية -كانوا لا يقبلون أن تلفح وجهه حرارة الشمس، ولا نسمة هواء باردة- فجاء عروة بن مسعود الثقفي رسولاً من قبل قريش ليفاوض النبي في الحديبية، فكان المغيرة واقفاً يظلل ويحمي رسول الله، فمد عروة بن مسعود يده ليداعب بعض الشعرات الطاهرات من لحية الحبيب محمد جرياً على عادة العرب في التودد إلى من يريد هذا المتحدث أن يكلمه، فمجرد ما مد عروة يده ليمسك لحية النبي عليه الصلاة والسلام وإذ بـ المغيرة ابن أخي عروة يضرب يد عمه بمؤخرة السيف ضربة شديدة وهو يقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا سأقطعها، مع أنه مدها مداعبة لشعرات النبي صلى الله عليه وسلم! وأنا أقول الآن: قد يُسب دين الله ودين رسول الله اليوم، في الوقت الذي ترون فيه على شاشة التلفاز أن لاعبي الكرة يرفعون على الأعناق، وتذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم الأبواب، وتصاغ لهم الأمجاد، وتهتف وتصفق لهم الجماهير المخدوعة! وبالله عليك تخيل معي مشهد أبي دجانة رضوان الله عليه في غزوة أحد، وهو يترس على النبي، وقد أخذ النبي في صدره بين أحضانه وأعطى ظهره للسيوف والرماح والنبال؛ خشية أن يصل سهم طائش إلى صدر الحبيب سيد الرجال.
وتدبر معي مشهد طلحة وهو يقاتل أمام النبي يمنة ويسرة، والرسول يقول لـ طلحة:(فداك أبي وأمي يا طلحة! وطلحة يلتفت إلى النبي ويقول: نحري دون نحرك يا رسول الله!).
وتدبر معي هذا المشهد العجيب لشاب من شباب الصحابة كان في أحضان عروسه، إذ لا زالت الليالي الأولى لعرسه الكريم، فيسمع النداء: يا خيل الله اركبي، وسمع: حي على الجهاد، فينسل من بين أحضان عرسه ويتسلل تتسلل القطا، وإن شئت فقل: نزعه من أحضان عرسه حبه لله ولرسول الله، وانطلق مسرعاً لينال شرف الصف الأول خلف رسول الله، ويسقط شهيداً في الميدان وبعد انتهاء المعركة يرفع التقرير الطبي إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويقال: يا رسول الله! إنا نرى على حنظلة أثر ماء، فمن أين جاء هذا الماء والحرارة تذيب الحجارة والصخور؟! من أين هذا الماء، وينزل المصطفى بنفسه ليقرر حالة هذه الجثة الموحدة الطيبة الطاهرة ويرى النبي بعينه أثر الماء فيأمرهم أن يسألوا أهله، فتقول: لقد سمع منادي الجهاد يقول: يا خيل الله! اركبي، حي على الجهاد، فلم يمهله الوقت ليرفع عن نفسه الجنابة، فخرج إلى الميدان وهو جنب، فقال المصطفى:(إن الله تعالى قد أنزل ملائكة من السماء بطست من الجنة -بماء من الجنة- فغسلت حنظلة ليلقى الله عز وجل طاهراً)، إنه الحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم! وآخر يقول له أبو سفيان وهو يعذب: أيسرك أن تكون في أهلك بين ولدك ومحمد في موضعك تُضرب عنقه؟! فقال هذا الصحابي الجليل: والله ما أحب أن تصيب رسول الله شوكة تؤذيه وأنا في أهلي معافى، فقال أبو سفيان قولته الخالدة: والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كما رأيت أصحاب محمد يحبون محمداً؛ لأنهم جسدوا الحب إلى واقع وعمل.
وأنا أرى أعظم احتفاء بالنبي قولة الصديق يوم أن اتهم المشركون رسول الله بالكذب ليلة الإسراء، فرد الصديق بقوله:(إن كان محمد قال ذلك فقد صدق) هذا هو الاحتفاء.
وأرى الاحتفاء الحقيقي في قولة فاروق الأمة عمر للنبي:(ألسنا على الحق؟! فقال رسول الله: بلى فقال: أليسوا على الباطل؟! فقال رسول الله: بلى، فقال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) هذا هو الاحتفاء.
وأرى الاحتفاء الحقيقي وقع يوم أن ارتقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وحث الناس على الصدقة، فجاء عثمان فملأ حجر النبي بالذهب والدنانير، ونزل النبي من على المنبر وهو يدعو الله لـ عثمان، ويقول:(ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم) هذا هو الاحتفاء.
وأرى الاحتفاء الحقيقي وقع يوم أن نام علي في فراش النبي ليلة الهجرة، وهو يعلم أنه إلى فناء، ولم لا؟ فليغن علي، وليبق حامل لواء الدعوة الحبيب النبي، هذا هو الاحتفاء.
فإن أرادت الأمة أن تحتفي بالحبيب المصطفى فلتتبرأ من الشرك، لتحقق التوحيد، لتحكم شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولتوالِ الله ورسوله والمؤمنين، لتحقق من جديد مبدأ السمع والطاعة، ولتسمع أمر ربها وأمر نبيها بلا تردد ولا انحراف، ثم عليها أن تنقب عن مكانة النبي في قبلها، ورحم الله من قال: من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهةٌ وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعةٌ ووفاءُ