وهل يسب عمر الفاروق الأواب؟! ذلكم الرجل الذي قدم لدنيا الناس كافة قدوة لا تبلى ولن تبلى، ركز معي أيها الحبيب! إنها قدوة تتمثل في عاهل كبير، بركت الدنيا كلها على داره بأموالها وزخرفها وذهبها وسلطانها، بركت الدنيا كلها على عتبة داره فسرحها سراحاً جميلاً، وقام لينثر في الناس خيراتها وأموالها، وليبعد عن الناس فتنها ومضلاتها، حتى إذا انفض عنه علائق هذا المتاع الدنيوي الزائل قام ليستأنف سيره ومسراه مع مولاه.
انظر إليه ستراه هنالك يجري تحت حرارة الشمس المحرقة على رمال ملتهبة، كادت الأشعة المنعكسة على الرمال أن تخطف الأبصار، فنظر إليه عثمان وقال: يا ترى من هذا الذي خرج في هذا الجو القائض القاتل؟! ولما دنا قال: يا سبحان الله! إنه عمر، إنه أمير المؤمنين، فناداه:(يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذا الوقت الشديد الحر؟! فيرد عمر أمير المؤمنين: بعير من إبل الصدقة قد ند وشرد وأخشى عليه الضياع، فقال عثمان: تعال يا أمير المؤمنين إلى الظل وإلى الماء البارد، وكلف أحد عمالك ليأتيك بهذا البعير، قال: عد إلى ظلك وعد إلى مائك البارد يا عثمان! أأنت ستسأل عنه بدلاً مني أمام الله يوم القيامة؟!) انظر إليه ستراه هنالك قد أحنى رأسه الذي ارتفع ليطاول كواكب الجوزاء، أو إن شئت فقل: الذي شرفت كواكب الجوزاء بالنزول إلى الأرض لتستوي برأس عمر! انظر إليه وقد أحنى رأسه تحت قدر على نار مشتعلة ينفخ في النار، لينضج طعمة طيبة لأطفال فقراء يبكون من شدة الجوع! انظر إليه ستراه هنالك يمشي مع زوجته ليأخذها في الليل الدامس إلى أين؟! إلى امرأة قد أدركها كرب المخاض، ولا تجد من يساعدها في الولادة، فيذهب أمير المؤمنين بنفسه ليأتي بامرأته لتساعد مسلمة فقيرة مريضة! انظر إليه ستراه هنالك وهو يتفقد أحوال رعيته، يرى إبلاً سمينة عظيمة ممتلئة فيقول عمر:(ما شاء الله إبل من هذه؟! فيقولون: إبل عبد الله بن عمر، وكأن حية رقطاء قد أفرغت كل سمها في جوف عمر! إبل عبد الله بن عمر؟! ائتوني به، ويأتي عبد الله وهو إمام الورع، إمام الزهد، إمام التقى، ويقف بين يدي أبيه، فيقول له عمر: ما هذه الإبل يا عبد الله؟! فيقول عبد الله: إبل هزيلة اشتريتها بخالص مالي يا أمير المؤمنين! وأطلقتها في الحمى لترعى لأبتغي ما يبتغيه سائر المسلمين من الربح والتجارة، فقال عمر في تهكم لاذع: بخ! بخ! يا ابن أمير المؤمنين! وإذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك ويزداد ربحك يا ابن أمير المؤمنين! قال: مرني يا أبت! قال: انطلق الآن فبع الإبل وخذ رأس مالك، ورد الربح إلى بيت مال المسلمين! سبحانك! يا خالق عمر سبحانك! يا خالق عمر.
انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضع الأوسمة والمناقب على صدر عمر، في سنن الترمذي بسند حسن من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً: (إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بينا أنا نائم إذ رأيتني في الجنة، ورأيتني إلى جوار قصر، ورأيت إلى جواره جارية تتوضأ فقلت -والقائل المصطفى-: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لـ عمر بن الخطاب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لـ عمر رضي الله عنه، فتذكرت غيرتك يا عمر فأعرضت بوجهي -أي: عن النظر إلى الجارية وإلى القصر- فبكى عمر وقال للمصطفى: أومنك أغار يا رسول الله؟!).
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:(بينا أنا نائم إذ عرض علي الناس وعليهم قمص، -جمع قميص- منها ما يبلغ الثدية، -جمع ثدي- ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجتره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: الدين).
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر قال:(بينا أنا نائم إذ أوتيت بقدح لبن فشربت حتى إني أرى الري يخرج من بين أظفاري، ثم أعطيت فضلتي -أي: ما تبقى من اللبن في الإناء- لـ عمر بن الخطاب قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: العلم).
وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال:(استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله وعنده نسوة من قريش يحدثنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على النبي، فلما استأذن عمر وسمع النسوة صوت عمر أسرعن وقمن من مجلس النبي يبتدرن الحجاب ليختفين من عمر، فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يضحك، فقال عمر المهذب المؤدب: أضحك الله سنك يا رسول الله! -يعني: زادك الله سروراً على سرورك، ولم يقل: لماذا تضحك يا رسول الله؟ فقال المصطفى: عجبت لهؤلاء اللاتي كن عندي يسألنني ويستكثرنني عالية أصواتهن، فلما سمعن صوتك قمن يبتدرن الحجاب! فقال عمر -المؤدب-: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله! ثم التفت عمر إلى النسوة وقال: يا عدوات أنفسهن! تهبنني ولا تهبن رسول الله! -والمرأة لا يخونها لسانها في مثل هذا الموضع أبداً-، فرد النسوة على عمر وقلن: نعم، فأنت أفظ وأغلظ من رسول الله، فقال النبي لـ عمر قولة عجيبة: أَوّه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده! لو رآك الشيطان سالكاً فجاً -يعني: تمشي في طريق- لتركه لك، وسلك فجاً غير فجك يا عمر!).
يا رافعاً راية الشورى وحارسها جزاك ربك خيراً عن محبيها رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها إن جاع في شدة القوم سبقتهم في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها جوع الخليفة والدنيا بقبضته منزلة في الزهد سبحان موليها فمن يباري أبا حفص وسيرته أو من يحاول للفاروق تشبيها يوم اشتهت زوجته الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها؟ ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي إلى البيت فرديها كذاك أخلاقه كانت وما عهدت بعد النبوة أخلاق تحاكيها فهل يسب الفاروق الذي أذل كسرى وأهان قيصر؟! إنا لله وإنا إليه راجعون!