[استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله]
أقبل موسم الحج للعام الحادي عشر من بعثته المباركة، وخرج الحبيب في ظلام الليل الدامس حيث نام المشركون بعد عناء طويل في النهار من تعذيب الموحدين من المستضعفين! ناموا في هذا الليل، وقام الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف النوم الطويل، ولا يعرف الراحة، ولا يعرف الهدوء والاستقرار من يوم أن نزل عليه قول ربه:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:١ - ٢]، فقام ولم يقعد ولم يسترح ولم يهدأ له بال، ولم يستقر له قرار، قام في هذا الليل الدامس حتى لا يحول بينه وبين دعوته أحد من المشركين، قام ليتجول بين خيام القبائل التي أقبلت من كل مكان في أرض الجزيرة، لماذا؟ ليدعوهم إلى الله جل وعلا، ليعرض عليهم دين الله تبارك وتعالى، فمنهم من يسبه، ومنهم من ينهره، ومنهم من يؤذيه، ومنهم من يطرده، والله ما ذهب يطلب مالاً ولا جاهاً، بل لقد ذهب إليهم بنور الدنيا والآخرة، فيطردونه من بين الخيام! ينتقل الحبيب على قدميه المتعبتين من خيمة إلى خيمة، ومن قبيلة إلى أخرى، حتى وصل إلى خيمة بددت الأحزان، وجددت الآمال، وضمدت الجراح، وصل إلى خيمة كريمة مباركة جليلة من بين هذه الخيام الكثيرة المترامية الأطراف، دخل الحبيب إلى خيمة أقوام ورجال من أهل المدينة المنورة شرفها الله، وزادها الله تشريفاً وتكريماً، حيث وجدت دعوته فيها بذوراً صالحة تقية نقية، سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات غيرت وجه الدنيا، وحولت مجرى التاريخ.
نعم أيها الأحباب! فلقد جلس الحبيب بين يدي ستة نفر من شباب المدينة، فعرض عليهم الإسلام، فتحركت قلوبهم لدين الله جل وعلا، فشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتجدد الأمل، وتبدد الحزن في وسط هذه الصحراء المترامية بالجهالة والشرك والكفر والإلحاد، تبدد الحزن وأشرق الأمل في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال هؤلاء:(يا رسول الله! إنا سنقدم على قومنا، وسندعوهم إلى الإسلام، فإن جمعهم الله عليك فلا رجل أعز عليهم منك) وعاد هؤلاء بهذا النور الجديد، وبهذا الفجر المشرق، عادوا إلى المدينة المنورة لينفذ نور الإسلام وفجر الإسلام في بيوتها وأرجائها، وأشرق فجر الإسلام على المدينة المنورة على أيدي هؤلاء الأبرار، على أيدي هؤلاء الأطهار الأخيار.