[الانفصام بين المنهج والواقع]
أما عن أول عناصر المقدمة التي ستحتاج منا إلى أكثر من لقاء، إن قدر الله البقاء واللقاء، فهي أسباب اختياري لهذا الموضوع.
والسبب الأول أيها الأحبة الكرام هو: الانفصام بين المنهج والواقع.
أحبتي في الله! إن المجتمع الذي بنى القرآن الكريم صرحه الشامخ، وأرسى لبناته العظام، على يد مربي البشرية الأعظم، الذي رباه الله على عينه ليربي به الدنيا صلى الله عليه وآله؛ إن هذا المجتمع كان مجتمعاً فريداً بكل ما تحمله الكلمة من معان، ولم تشهد البشرية له نظيراً إلى يومنا في تاريخها الطويل، إنه مجتمع رباه النبي صلى الله عليه وسلم على العبودية الكاملة لله وحده لا شريك له، وتمثلت هذه العبودية الكاملة بالعقيدة الصافية الخالصة امتثالاً عملياً لقول الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، ولقول الله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:٦٢].
وتمثلت هذه العبودية الكاملة في العبادة الصحيحة بركنيها: من كمال الذل وكمال الحب لله عز وجل، وبشرطيها من إخلاص لله واتباع لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، امتثالاً عملياً لقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣].
وتمثلت هذه العبودية -ثالثاً- في تحكيم الشريعة امتثالاً عملياً لقول الله عز وجل: {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٤٠]، وتطبيقاً حرفياً لقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥].
وتمثلت هذه العبودية -رابعاً- بالجانب الأخلاقي والسلوكي، امتثالاً عملياً لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:٩٠]، وامتثالاً عملياً لقول الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).
إنه مجتمع فريد في كل شيء: في عقيدته، في عبادته، في شريعته، في أخلاقه وسلوكه ومعاملاته، إنه مجتمع رباه القرآن، وطهر باطنه وظاهره، وأخلاقه ومشاعره، وحاطه بسياج من التربية الفذة الفريدة الكاملة، فعاش أفراد هذا المجتمع في واحة من الود الندي، والتسامح الجياش، والحب والإخاء، كأنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، إنه مجتمع رباه النبي صلى الله عليه وآله وسلم تربية فذة كريمة شاملة كاملة، رباه المصطفى عليه الصلاة والسلام تربية حولت كل هذه الأطر النظرية الإسلامية إلى واقع متحرك، وإلى مجتمع مرئي ومنظور ومحسوس، نقله النبي عليه الصلاة والسلام من أجواء الكفر والحقد والكراهية والعنصرية والقبلية البغيضة، إلى واحة التوحيد، وإلى واحة الحب في الله والإخاء والمساواة وعدم التفرقة، فلا تميز في هذا المجتمع لمن ارتفع على من اتضع، ولا لمن اغتنى على من افتقر، ولا لمن حكم على من حُكِم، لا فضل لأحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما قال ربنا جل وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:١٣].
وظل هذا المجتمع -أيها الخيار الكرام- هكذا يطاول كواكب الجوزاء في عنان السماء، ظل متمسكاً بكتاب رب الأرض والسماء وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ظل هذا المجتمع هكذا حتى أخذ يبتعد رويداً رويداً عن هذا النبع الكريم، وعن هذا الأصل العظيم، عن نبع عزه ومصدر شرفه، وأصل كرامته وسيادته وقيادته، وراح هذا المجتمع يطرح بين يديه أصل الكرامة والسؤدد؛ ليلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، فحدث في هذا المجتمع هذا الخلق العجيب، وهذا الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع الحنظل المرير.
ففي الجانب العقدي نرى العقيدة اليوم تذبح شر ذبحة على أيدي أبنائها الذين ابتعدوا كثيراً عن حقيقتها ومقتضياتها، وعن مفهومها الشامل ومقتضاها الشامل، ودخل الفكر الإرجائي في جسد الأمة، فابتعد الناس كثيراً -إلا من رحم ربك- عن صفاء هذه العقيدة الخالصة.
وفي الجانب التعبدي: صرف كثير من أبناء الأمة العبادة لغير الله جل وعلا، وسمعنا بآذاننا من أبناء الأمة الكبار من يقول: إنني ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تنظم شئونه وتدبر حياته! صرفت العبادة لغير الله، ذبح لغير الله، ونذر لغير الله، وطاف المسلمون بغير بيت الله، وحلف المسلمون بغير الله جل وعلا، وقدمت العبادة في كثير من صورها وأجزائها إلى غير الله جل وعلا، إلا من رحم ربك.
وفي الجانب التشريعي: وقع ما لم يكن يخطر لأحد على بال، وقع المنكر الأعظم، والفساد الأخطر الأكبر بتنحية شريعة الله جل وعلا، وتحكيم القوانين الوضعية الفاجرة، التي هي من صنع المهازيل من البشر من شيوعين، وعلمانيين، وديمقراطيين، واشتراكيين، وبعثيين، وعفلقيين وغيرهم، ونحى المسلمون شريعة الله! وقدموا شريعة المهازيل من البشر! الذين تتحكم فيهم الأهواء والشهوات والنزوات، والله جل وعلا رب الأرض والسماوات يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠]، {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٤٠].
وفي الجانب النفسي: نرى هزيمة نفسية مدمرة، ونرى الساحة تعج بمسخ مشوه للهوية، وبأغاليط تشوه الفكر وتمسخ التاريخ، وبزعزعة تميت الانتماء في القلوب والعقول.
أما في الجانب الأخلاقي والسلوكي فحدث ولا حرج، فهذا التخلف في الأخلاق، وهذه الانتكاسة في السلوك وفي المعاملات، وهذا الانفصام النكد بين العبادات والمعاملات: في المتاجر والمصانع والمزارع والشوارع والحقول والتجارات وغيرها، هذا الانفصام النكد إنما هو نتيجة حتمية للتخلف العقدي والتعبدي والتشريعي والنفسي مع غياب التربية الإسلامية الصحيحة، مع نسيان قول رسول الله: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).
وهكذا أيها الأحبة نرى انفصاماً بين المنهج المنير والواقع المرير، ولكن في دياجير هذا الظلام، شاء الله تبارك وتعالى أن يبسط في الأفق نوراً -سأتحدث عنه بعد قليل بإيجاز شديد- فهذا هو أول سبب من الأسباب التي دعتني للحديث عن أصول التربية، وعن الإطالة في المقدمة عن عمد وعن اختيار؛ لأننا نرى هذا ولا ينكر ذلك أحد إلا إذا كان يعيش في برج عاجي! أو جلس ينظر لحال المسلمين من مكتب مكيف مغلق لا يحتك بواقع الناس في شيء.
هذا هو السبب الأول الذي دعاني للإطالة في هذه المقدمة لأصول التربية، ألا وهو الانفصام بين الواقع والمنهج، أو بين المنهج المنير والواقع الحنظل المرير.