للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طول الأمل]

العائق الثاني: طول الأمل، جميل أن تحمل أملاً في قلبك لتعمر الكون، فالإنسان مفطور على حب الحياة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل بالقرآن والسنة.

جميل أن أعيش في الدنيا وأنا أحمل الأمل في قلبي أن أُعَمِّر بيتاً لأولادي، وأن أصل إلى أعلى المناصب، وأرقى الدرجات، وأن أحصل على الملايين المملينة من الأموال من الحلال الطيب.

هذا شيء جميل، لكن الخطر أن يحول طول الأمل بينك وبين طاعة الله جل وعلا!! فطول الأمل -مع قتل الوقت وتضييع العمل- مصيبة كبيرة، ومرض عضال، إن أصاب الانسان شغله عن طاعة الكبير المتعال، وفتنه بالدنيا وأنساه الآخرة، فتراه لطول أمله في غفلة يقضي الليل والنهار في أمور الدنيا، إن ذكَّرته بالله ما تذكَّر، إن تلوت عليه القرآن ما تأثر، إن ذكرته بحديث النبي ما تحرك قلبه، إنه في غفلة، ومع ذلك يمنيه طول الأمل بـ (سوف)! واحسرتاه من (سوف)! سوف أصلي غداً، سوف أقيم الليل غداً، سوف أتصدق غداً، سوف أتفرغ للعبادة إذا خرجت على المعاش، سوف أرتدي الحجاب أيها الشيخ إذا تزوجت! سوف وسوف وسوف سوف أحج في العام المقبل.

ويرى الإنسان نفسه في لحظة بين عسكر الموتى بين يدي الله جل وعلا، يتمنى الرجعة، فيقال له: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:١٠٠] لا وزن لها، ولا يجيبه الله جل وعلا.

جميل أن تحمل الأمل في قلبك، لكن احذر أن يحول طول الأمل بينك وبين طاعة الله سبحانه، وأن يمنيك بكلمة: سوف تفعل، وسوف تفعل، وسوف تفعل! ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من طول الأمل فقال كما في صحيح البخاري لـ ابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).

الغريب في بلد يفكر في العودة إلى موطنه، وعابر السبيل في بلد يفكر في العودة إلى بلده، فكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.

وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء).

هذا هو الفهم الحقيقي للأمل، فلا تكن أيها المسلم! مثل من قال الله تعالى فيهم: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:٣].

قال القرطبي: أي: يشغلهم الأمل عن طاعة الله جل وعلا.

أخي الحبيب! أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).

وهذا ليس من كلام النبي، وإنما هي حكمة لأحد السلف، والراجح أنها من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

اخرج لعملك وأنت مستعد للقاء الله، بل وأنت في شوق في كل يوم للقاء الله جل وعلا، ففي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: فكلنا يكره الموت.

قال: ليس ذلك يا عائشة، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بسخط الله وعذابه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)، يمنيك بطول الأمل، ويقول لك: لا تعمل الآن كذا، فرِّغ نفسك الآن للمعصية أو للهو أو لمتع الدنيا أو للشهوات أو للملذات، يقول الرجل لنفسه: أنا لا زلت شاباً، ولا زالت بين يدي حياة أستمتع بها وأتلذذ بها! أذهب إلى هنا، وأنطلق إلى هنالك، وأعدك -يا شيخ- إذا بلغت سن المشيب لن أفارق بيت الله جل وعلا لحظة! قال لي إخواننا في أمريكا: إن رجلاً من الله عليه بالأموال، وهو جار للمسجد، وما دخل المسجد مرة، ذكَّروه بالله فما تذكر، حذروه من النار فما خاف النار، ذكروه بكلام النبي المختار فما تحرك قلبه، وصدق فيه قول الله عز وجل: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:١٧٩]، أسأل الله أن يحفظنا من الغفلة.

فذهبت إلى هذا الرجل، فرأيته يبيع الخمر في محله، ويبيع لحم الخنزير، فقلت له: يا أخي! اتق الله! ألست مسلماً؟! المسجد إلى جوارك، وما خطوت إليه خطوة! تلوت عليه القرآن، وذكرت هذا المسكين بحديث النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لي -ورب الكعبة-: يا شيخ! أعدك إن عدت إلى بلدي -بعد ما أحصل من المال ما أريد- أن أبني لله مسجداً، وأن أعتكف فيه، ولن أفارقه! قلت له: انتظر حتى أوقع هذا العقد بينك وبين ملك الموت! أعطني هذه الفرصة لأوقع لك هذا العقد بهذه الصورة بينك وبين ملك الموت!!! هل ضمنت يا مسكين أن تعود إلى بلدك؟!! هل ضمنت يا مسكين أن تصبح إلى اليوم التالي! فنظر إلي وقال -وهو الذي صار عبداً للدولار-: أشهد الله، ثم أشهدك أنني إذا أصبت بحالة إعياء وحالة صداع فإني أضع ورقة الدولار من فئة المائة على رأسي فيطير الصداع والألم في الحال! قلت: أنت عبد للدولار، وأنت عبد للدرهم والدينار كما قال النبي المختار: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار) أنت تعيش من أجل المال، وتعيش من أجل الدنيا، والمال ظل زائل، وعارية مسترجعة، والدنيا إلى زوال وإلى فناء، ولو دامت لأحد لدامت لسيد الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه القائل: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء)، فلا يغرنك طول الأمل.

ورحم الله الحسن إذ يقول: (ما أطال عبد الأمل إلا وقد أساء العمل).