[يقين الدلالة]
أما يقين الدلائل: فمع أن الخبر من عند الله، ومع أن الخبر من عند الصادق رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فإن الله تعالى يقيم الأدلة على صدق أخباره وصدق أخبار رسوله، انظر معي إلى يقين الدلالة، تجد أن الله جل وعلا هو الذي يخبر: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:١٢٢]، ورسول الله هو الذي يحدث، ومن أصدق من رسول الله في دنيا البشر، ومع ذلك يقيم الله الأدلة والبراهين على صدق خبره، وعلى صدق خبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:٦٠]، انظروا إلى هذه الأدلة التي تراها العين، وتحسها الجوارح؛ لتخلص الآية الكريمة إلى هذا السؤال المنتقل من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:٦١ - ٦٢] إلى آخر هذه الآيات الكريمة، فالله يقيم الأدلة والبراهين على أنه لا يستحق أن يوحد إلا الله، وعلى أنه لا يستحق أن يعبد في الكون إلا الله.
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:٧٥ - ٧٩].
لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك الكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيراً لها أعياك قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاك قل للبصير وكان يحذر حفرة فهو بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطى وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاك وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك وسل الوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك وسل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاك وإذا رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله من أسراك وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواك وإذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار من أوراك وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً قمم السحاب فسله من أرساك {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٠]، {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٠]، {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٠].
سل الواحة الخضراء والماء جارياً وهذي الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا سل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا ولو جن هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٠]، وقال جل في علاه: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٣٣ - ٤٠].
أيها المسلمون! {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٠]، والأدلة كثيرة، هذا يقين الدلالة، فمع أن الذي يخبر هو الله إلا أنه يقيم الأدلة والبراهين على صدق خبره وعلى صدق خبر رسوله الذي ما عرفت البشرية أصدق منه، قال عبد الله بن عمرو والحديث في مسند أحمد بسند صحيح: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: إن رسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، قال عبد الله بن عمرو: فأمسكت عن الكتابة -أي: امتنعت عن الكتابة- وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الصادق: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق)، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧].
ودائماً أضرب هذا المثال ولا أمل من تكراره وطرحه، ألا وهو حديث سيد الخلق في الصحيح: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه أو لينزعه، فإنه يحمل -أي: الذباب- في أحد جناحيه الداء وفي الآخر الدواء)، وقد قيل: إن هذا الحديث يصطدم مع العقل! وأنه لا يتفق مع حضارة العقل! ورد على رسول الله خبره وهو الصادق! وقد كان من الواجب عليك فقط أن تسأل: هل هذا الحديث صحيح؟ فإن تبين لك بالأدلة التي وضعها جهابذة علم الحديث أن الحديث ثابت عن الصادق، فكان من الواجب بعد ذلك أن تسلم به ولو لم يدرك عقلك معنى كلام رسول الله؛ لأنني أرى الآن ثورة وهجمة شرسة في كل وسائل الإعلام على ثوابت الدين، وصار الدين الآن ألعوبة، فكل واحد يتكلم في أي جانب من جوانب الشرع، في الوقت الذي يشاء وبالقدر الذي يشاء، ويمضي آمناً مطمئناً وكأنه لم يفعل شيئاً على الإطلاق! ولا يدري أن كثيراً من ضعاف العلم وضعاف الإيمان قد تشككوا واهتزت عقيدة التوحيد في قلوبهم.
فخرج علينا عالم من جامعة هام بألمانيا يسمى بريفلز وقد وصل إلى هذا العالم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق وأجرى دراسة علمية، فوجد أن الذبابة تحمل نوعاً من أنواع الجراثيم على جناح من جناحيها، وهو الجناح الذي تسقط عليه، ووجد أن الذبابة تفرز نوعاً من أنواع الجراثيم التي تسبب أمراضاً خطيرة كحمى التيفود والدوسنتاريا وغير ذلك.
فلما أتم البحث العلمي وجد أن الذبابة في نفس الوقت تحمل على الجناح الآخر ومنطقة البطن نوعاً من أنواع الفطريات سماها هذا العالم أميوزموسكي، وهذا الفطر أيها الأفاضل! كفيل بقتل هذه الجراثيم التي تفرزها الذبابة من جناحها الأول، بل قال: إن جراماً واحداً من فطر أميوزموسكي، يحمي ألفين لتراً من اللبن من الجراثيم! ولكن العجب العجاب أنه وصل إلى أن الذبابة لا تفرز هذا الفطر المضاد للجراثيم إلا إذا غمست الذبابة كلها في السائل! وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم، أولما جاءنا الوحي من عند رسول الله كذبناه فلما جاءنا من ألمانيا صدقناه! هل هذا يرضي الله؟! لما جاءنا الوحي من عند سيدنا رسول الله كذبناه أو أنكرناه أو تشككنا فيه ورددناه، فلما جاء إثبات صدق رسول الله من ألمانيا قبلناه؟!