للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمانة الكلمة وأزمة العقل المسلم]

أمام كل حدث نرى هذه الأزمة، أمام كل مصيبة نرى أزمة العقول المسلمة، ونرى مدى التفاهة لكثيرٍ ممن يديرون دفة التوجيه والقيادة على صفحات الجرائد والمجلات ولا حول ولا قوة إلا بالله رب الأرض والسماوات.

أيها الأحبة الكرام! الكلمة أمانة، الكلمة في الجريدة، في الإذاعة، في التلفاز، في المسجد، في الوظيفة، في الشارع الكلمة التي ينطق بها الإنسان أمانة ثقيلة، أمانة عظيمة، الكلمة شأنها عظيم، الكلمة خطرها جسيم، ولِمَ لا؟ فبكلمة واحدة يدخل المرء دين الله، وبكلمةٍ واحدة يخرج المرء من دين الله، وبكلمة واحدة ينال المرء رضوان الله، وبكلمة واحدة ينال المرء سخط الله، قال جل في علاه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨] وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في جهنم) كلمة! هذه الأمانة العظيمة أمانة الكلمة، أمانة توجيه العقل المسلم، هذه الأمانة الثقيلة يتحملها العلماء، والدعاة، والأدباء، والمفكرون، والكتَّاب، والصحفيون، والمربون، والآباء، والأمهات، وكل من يساهم في تحريك دفة التربية والقيادة والتوجيه بطريقٍ مباشر أو غير مباشر، يتحمل كل هؤلاء هذه الأمانة الضخمة، وهذه المسئولية العظيمة الكبيرة، فالأمة كلها تبعٌ لهؤلاء، الأمة بتوجهاتها وبعقلياتها وبفكرها تبعٌ لهؤلاء القادة ممن يشكلون عقلية هذه الأمة، الأمة تنتظر نتاج هؤلاء، وتنتظر توجيه هؤلاء، وتنتظر تقى هؤلاء.

وأعظم دليل على فشل جل هؤلاء ما نراه الآن من حالٍ مهين خطيرٍ لهذه الأمة، حيث أننا نرى الأمة إلا من رحم ربك تتعامل مع كل حدث وأزمة بسطحية مروعة، بسطحية مدمرة، نرى أن المسلم لا فارق بينه وبين هذا الرجل الغربي ألبتة، فالمسلم يتعامل مع الحدث كما يتعامل مع الحدث ذاته الرجل الغربي الذي لا يؤمن بالإله، ولم يهتد من حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مكمن الخطر أن الذي يحرك ويشكل هذه العقليات المسلمة وهذه السطحية الخطيرة هم القادة، هم العلماء، هم الكتَّاب، هم الصحفيون، هم الأدباء، وبكل أسف رفعت الأمة هؤلاء على الأعناق، وفوق الرءوس، وهم في الحقيقة إلا من رحم ربك كالطبل الأجوف يُسمع من بعيد وباطنه من الخيرات خالٍ، جل هؤلاء ما يعرف قرآناً، ولا يعرف سنة، ولا يتصور المنهج التربوي الإسلامي بأصالته وسموه وكماله، ومن ثم فإن أي حدثٍ لا يمر على هذا (الفلتر) النقي، على (فلتر) المنهج التربوي الإسلامي ليوظف هذا الأديب أو الصحفي أو الكاتب هذا الحدث توظيفاً يتلاءم مع منهج الله ومع منهج رسول الله فيخرج المسلم بعد ذلك من خلال هذه الرؤية المسلمة العقلية الواسعة، يخرج المسلم بعد ذلك برؤية تخالف تماماً رؤية الرجل الغربي الذي سطر لنا هذا الحدث ليصرف الأمة عن دينها وعن طريق نبيها صلى الله عليه وسلم.

كل الجرائد والمجلات والإذاعات والصحف ضخمت الحدث لامرأة زانية، على أعلى مستويات هذه الأمة، قدم الحدث لامرأة ماتت وهلكت مع عشيقها، يقدم الحدث بهذه الصورة التي تثير حالة غبش تحياها الأمة ويحياها الشباب، فيقف الآن المسلم العادي البسيط وهو لا يستطيع أبداً أن يستبين سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين، لا يعرف أبداً أين القدوة، ومن هو القدوة والمثل؟ وهذا من أخطر ما تعانيه الحركة الإسلامية الآن، ألا وهي حالة الغبش والتذبذب التي يعيش فيها المسلمون أو جل المسلمين بمعنىً دقيق.

ولا يمكن على الإطلاق يا إخوة أن تخرج الأمة لنصرة دينها إلا إذا خرجت من حالة الغبش والتذبذب، إلا إذا تمايز الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمانٍ لا نفاق فيه، وفسطاط نفاقٍ لا إيمان فيه، إلا إذا أسقطت الأمة كل هذه الشعارات المضللة، وكل هذه اللافتات البراقة الخبيثة التي يتخفى خلفها أعداء هذه الأمة ممن لا يرقبون في المؤمنين والمؤمنات إلاً ولا ذمة.

لقد آن الأوان بكل صدق ليرفع مثقفو الأمة ومفكروها وعلماؤها وأدباؤها وقاداتها، آن الأوان أن يتخلصوا من عقدة النقص أمام الغرب بكل ثقافاته ومعطياته وسلوكياته، آن الأوان أن يحذر هؤلاء القادة الأمة من هذا الذوبان الخطير في هذه المناهج الغربية والثقافات الغربية التي تصطدم اصطداماً مباشراً مع عقيدتنا وأخلاقنا وديننا، وقد حذر الصادق المصطفى من هذا الذوبان كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ -وفي لفظ: خربٍ- لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن) مَن غير هؤلاء؟ تبعت الأمة سنن هؤلاء مع أن الأمة تعلم يقيناً أن هؤلاء على ضلالٍ وباطل، وأنها تحمل منهج ربها ومنهج نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد آن الأوان أن يتخلص هؤلاء من عقدة النقص أمام الغرب بثقافاته، ومعطياته، وسلوكياته، لا سيما في الجانب الأخلاقي التربوي، وإن كنت في الوقت ذاته أقول بأعلى صوتي: لا حرج على الإطلاق أن تستفيد الأمة من حضارة الغرب في الجانب العلمي والمادي والصناعي، ليت الأمة نقلت أروع ما وصل إليه الغرب في جانب التقدم العلمي، ليت الأمة فعلت ذلك، لكنها بكل أسف تركت أروع -وأنا أقر- أروع ما وصلَ إليه التكتيك الغربي في عالم الاتصالات، في عالم المواصلات، في عالم الذرة، في عالم الكيمياء، في عالم الطب، في عالم الجيولوجيا، في كل هذه العوالم تركت الأمة أروع ما وصل إليه الغرب في هذا الجانب، وراحت لتنقل أعفن وأقذر وأرخص وأحقر ما وصل إليه الغرب في الجانب الأخلاقي والتربوي، الذي يصطدم مع عقيدتنا وأخلاقنا، وقيمنا وديننا، حتى رأينا من بني جلدتنا من يقول: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم! تبعية ذليلة، وهزيمة خطيرة، خذ أفضل ما عند الغربيين لا حرج، واترك أعفن ما عند الغربيين مما يصطدم مع دينك وقيمك وأخلاقك.

إننا نشهد أزمة خطيرة للعقل المسلم تسبب فيها هؤلاء القادة الذين يوجهون ويقودون التربية ويتحكمون في توجيه وتشكيل عقليات أبناء هذه الأمة، إنها أمانة الكلمة، وتوجيه العقل المسلم أمانة، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله جميعاً في توجيه الأمة الوجهة الصحيحة التي أرادها لها ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم؛ لتتبوأ الأمة من جديد مكانتها التي قال الله عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:١١٠].

وأنا لا أنكر في الوقت ذاته أننا نرى من هؤلاء القادة من علماء وأدباء ودعاة ومفكرين وصحفيين من تحترق قلوبهم على أحوال هذه الأمة الجريحة، لكنهم يصرخون في صحراء مقفرة، أسأل الله أن يوصل صرخاتهم الصادقة إلى قلوب وآذان هذه الأمة في الشرق والغرب، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

لا أريد أن أطيل مع كل عنصر، فإن الموضوع والله طويل، وأنا كما ترون لا أريد أن أعالج الحدث في ذاته، وإنما أريد كما ذكرت أن أستخرج الدروس والعظات والعبر التي يجب على كل مسلمٍ أن يخرج بها من مثل هذه الأحداث التي تبين في كل مرة حجم انحراف الأمة عن منهج ربها، وطريق نبيها صلى الله عليه وسلم.