[مصدرية القرآن دليل على إعجازه]
أحبتي في الله! القرآن كلام الله جل وعلا، وهذا أعظم دليل على إعجاز القرآن، فمصدرية القرآن دليل على إعجازه، فهو كلام الله الذي فضله على كل كلام كفضل الله على سائر الخلق.
القرآن هو كلام الله الذي تحدى الله به البشرية عامة، وتحدى به المشركين المنكرين خاصة، ومازال التحدي قائماً إلى يوم القيامة قال تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:٨٨]، فلما عجزوا عن الإتيان بقرآن مثله خفف الله جل وعلا التحدي، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور فقال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:١٣] , فعجزوا.
فخفف الله التحدي إلى أقل درجاته، فتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثل سور القرآن الجليل فعجزوا، قال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:٢٣ - ٢٤].
أيها الأفاضل! كلام الله جل جلاله لو أنزله على جبل لتصدع الجبل من خشية الملك الجليل، قال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:٢١] , فالقرآن تخشع وتتصدع له الجبال، ولا تتحرك له القلوب الغافلة! لذا قال عثمان رضي الله عنه: (والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا).
تصور أن المشركين في مكة كانوا يخافون على أنفسهم من سماع القرآن! تصور معي مرة أخرى أن المشركين أنفسهم كانوا يخشون على أنفسهم من سماع القرآن، لماذا؟! لأن القرآن كان يصدع الكفر والكبر في قلوبهم، بل في السنة الخامسة من البعثة النبوية المطهرة انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت الله الحرام ليصلي لله جل وعلا على مرأى ومسمع من صناديد الشرك والكفر، وكانوا يكرهون ذلك، حتى قال اللعين أبو جهل: أيعفر محمد وجهه وهو بين أظهرنا! يعني: أيسجد محمد لربه على مرأى ومسمع منا عند الكعبة؟! قال: واللات والعزى لئن أتى محمد ليصلي لأطأن عنقه، أي: لأضعن رجلي أو حذائي على عنقه وهو ساجد بين يدي ربه، فجاء الحبيب صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد الحرام ووقف يصلي لله تعالى، فلما سجد انطلق اللعين أبو جهل وهو يزعم أنه سيطأ بقدمه في عنق النبي وهو ساجد، فلما اقترب من رسول الله عاد إلى الخلف وهو يجري ويدفع بيديه، وكأنه يرد عن وجهه شيئاً، فلما اقترب من المشركين قالوا: ماذا يا أبا الحكم؟! لماذا رجعت؟! لماذا جريت بهذه الصورة المزرية؟! فقال أبو جهل: إن بيني وبين محمد لخندقاً من نار، ووالله إني لأرى أجنحة.
فلما انتهى النبي من صلاته قال قولته الجميلة: (والذي نفس محمد بيده! لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً).
الشاهد: دخل النبي صلى الله عليه وسلم كعادته يوماً ليصلي لله جل جلاله، والمشركون ينظرون إليه بتغيظ شديد، ورفع الحبيب صوته بالتلاوة فقرأ سورة النجم كاملة، وأرجو أن تتصور حلاوة وجلالة القرآن وهو يخرج من فم الحبيب، الرسول هو الذي يتلو، فليست التلاوة الآن لبشر عادي، والمشركون يسمعون القرآن من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ النبي السورة كاملة، وقرأ في أواخر السورة آيات جليلة تهتز لها الحجارة، وتخشع لها الجبال والقلوب: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:٥٧ - ٦١] , أي: تغنون وترقصون وتطبلون وتزمرون، {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:٦١ - ٦٢] , وخر النبي ساجداً لربه، فلم يتمالك أحد من المشركين نفسه فخر ساجداً لله خلف رسول الله! هل تتصورون هذا أيها الأفاضل؟! الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب سجود التلاوة مختصراً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم -أي: بسورة النجم- وسجد معه المسلمون والمشركون والجن الإنس.
نعم والجن.
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:١] , الجن هم الذين يتحدثون عن القرآن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:١ - ٢] , سجد النبي وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، وهذا هو السر -يا طلبة العلم- الذي جعل المهاجرين الأول الذين هاجروا من مكة فراراً من بطش المشركين إلى الحبشة؛ هذا هو السر الذي جعلهم يرجعون من الحبشة بعد هجرتهم الأولى لما بلغهم أن المشركين سجدوا خلف رسول الله، فظنوا أنهم قد آمنوا بالله جل وعلا، فعادوا إلى مكة، لكنهم لما رفعوا رءوسهم أنكروا جميعاً ما فعلوه وما صنعوه! لكنه القرآن الذي صدع عناد الكفر والكبر في قلوبهم فسجدوا جميعاً لله من جلال القرآن وروعته وعظمته.
نعم أيها الأفاضل! والوليد بن المغيرة والد فارس الإسلام وسيف الله المسلول خالد بن الوليد كان متعنتاً متكبراً منكراً، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه الملك والجاه والمال والسلطان حتى يرجع إلى دين آبائه وأجداده؛ قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم آيات جليلة من القرآن الكريم، فقال الوليد كلماته الخالدة في حق القرآن -والحق ما شهدت به الأعداء- قال الوليد: والله! إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه.
هذه شهادة كافر عنيد للقرآن، فلما قال هذه الكلمات للمشركين قالوا: صبأ والله الوليد، إذاً لتصبأنّ قريش كلها، فعاد حتى لا تضيع زعامته في القوم، ففكر وقدر الأمر من جميع جوانبه، ثم عاد ليعلن شهادته الظالمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ربنا جل وعلا في شأن الوليد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ ً} [المدثر:١١ - ١٦] , لماذا؟ تدبر القرآن، {إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:١٦ - ٢٨] إلى آخر الآيات.