للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إلجاء المخاض لمريم وشدته عليها]

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:٢٢] وهنا في هذا المكان البعيد عن أعين الناس، ولكنه قريبٌ من عين الذي لا يغفل ولا ينام، لا يتركها ربها أبداً، هنا يقول الله سبحانه: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:٢٣] انظر إلى دقة اللفظ: فأجاءها، بمعنى: فألجأها المخاض إلجاءً فاضطرها اضطراراً، وكلكم يعلم لا أقول النساء وإنما أقول أنتم أيضاً، فما من امرأة أو رجل إلا ويعلم شدة الوضع عند المرأة، فلقد رأيت زوجتك، وأمك، وأختك، وابنتك تتألم وتصرخ وأنت إلى جوارها في مكانٍ آخر، لأن آلام الوضع لا يعلمها إلا من جربت هذا الألم، ربما تألمت أنت لألمها إلا أن الألم الحقيقي لا تعرف قدره أنت مهما كان ألمك.

فهنا جاءها المخاض: أي الطلق، وآلام الولادة والوضع: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:٢٣] أي: ففاجأها المخاض، واضطرها الطلق اضطراراً إلى جذع نخلة قريب من هذا المكان الذي ذهبت إليه وجلست فيه: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٣] استندت على هذا الجذع وهي تتألم.

ولكم أن تتخيلوا معي عذراء لأول مرة تلد، ليس معها أم، ولا أخت، ولا زوج، ولا ابن، ولا أي مخلوق، لكن معها الله، ومن كان الله معه فلا يحزن، عذراء تلد لأول مرة، وأعتقد أن النساء يعلمن ويعرفن هذا الأمر جيداً، فتاة تلد لأول مرة دون أن يكون معها إنسان.

{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:٢٣] وفجأة نزل الوليد، وليس الإله! هل هناك إلهٌ يولد؟! هل هناك إلهٌ ينزل من فرج؟! هل يليق بالإله أن يتلبط بين الدماء والحيض؟!! هل يليق بالإله أن يلتقم الثدي ليشرب من جوع؟! هل يليق بالإله أن يأكل الطعام ليسد جوعه؟! هل يليق بالإله أن يلف في لفائف، وأن يتبول وأن يتغوط؟! تعالى الله عما يقول النصارى علواً كبيراً! ونزل الوليد، وهنا رأت مريم نفسها أمام الفضيحة بجميع أركانها، لا مفر منها، ولدها أمام عينيها وبين يديها، وهنا قالت بلسان المرأة الضعيفة التي تعلم علم اليقين أنها في مواجهة قومها، قالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:٢٣] ليتني متُ قبل هذا اليوم، ليتني ما رأيته، ليتني ما عشتُ إلى هذا اليوم، ماذا سأقول لقومي؟ وماذا سأقول لأهلي؟ وقد انتشر الخبر وشاع في بيت زكريا، وبيت عمران، وبني اسرائيل، بل واتهموها بـ يوسف النجار، وأن الفضيحة إذا خرجت من بيت الورع فإن الألسنة ترددها أيما ترديد، ولكن الفضيحة إن خرجت من بيت الفضيحة والرذيلة لا يأبه لها، ولا يهتم بها أحد، أما أن تخرج الفضيحة من بيت التقى والورع فإنها الفضيحة!! شاع الخبر في بني إسرائيل ومريم في هذه اللحظات أخذت تفكر وتتجاذب مع نفسها أطراف الحديث والحوار، ماذا سأقول لقومي؟! وماذا سيكون جوابي؟! {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:٢٣].

وهنا ملحظٌ فقهيٌ عظيم، وهو: يجوز للمسلم أن يتمنى الموت إن كان تمنيه للموت من فتنةٍ ستدمر عليه دينه، ولكن لا ينبغي للمسلم أن يتمنى الموت لفقره، أو لمرضه، أو لرسوب ابنه، أو لمعاكسة زوجته إياه، لا ينبغي له أن يتمنى الموت لما ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ وقع به، وإن كان ولابد فاعلاً أو متمنياً فليقل: اللهم توفني ما كانت الوفاة خيراً لي، وأحييني ما كانت الحياة خيراً لي) هذا ملحظ سريع في الآية.