للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ترويج المنافقين لحادثة الإفك]

إذا أردتَ -أيها الحبيب- أن تتعرف على خطورة الكلمة بحق فاعلم أنه بسبب كلمات قليلة كاذبة طيَّرها رأس النفاق، وتلقفتها أبواق الدعاية، بثت هذه الكلمات لتنال من عرض أطهر قائد، وأشرف مُرَبٍّ عَرَفَته الدنيا، لتنال من عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!! وهل اتهم الحبيب في عرضه؟!

الجواب

نعم، بسبب كلمات خبيثة طيَّرها منافق، وتلقفتها أبواق الدعاية وعصابات الإرجاف والنفاق، تطايرت هذه الكلمات لتنال من أشرف وأطهر عرض، ألا وهو عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ففي الصحيحين من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين نسائه، فأيتهن وقع سهمها خرجت معه)، وفي غزوة بني المصطلق ضرب النبي القرعة بين نسائه فوقع السهم على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فخرجت عائشة مع الحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

تقول عائشة: (وكنت أُحْمَل في هودجي، وأُنْزَل فيه، وكان هذا بعد نزول آية الحجاب).

والهودج هو: محملٌ أو رحلٌ يوضع على ظهر البعير لتركب فيه المرأة؛ ليكون ستراً لها، فكانت عائشة بعد نزول الحجاب تركب في هذا الهودج، ويُنْزَل هذا الهودج وهي فيه.

فلما انتهى رسول الله من غزوِه وقَفَل -أي: عاد-، وقرب من المدينة، وقف الجيش في مكان، وأرادت هذه الزهرة التي نشأت في بستان الحياء أن تقضي حاجتها، فانطلقت عائشة بعيداً عن أعين الجيش لقضاء حاجتها، فلما عادت إلى هودجها ومكانها التمست صدرها فلم تجد عقدها، فعادت لتبحث عن عقدها في موضع قضاء شأنها، فأخرها البحث، فعادت مرة أخرى فلم تجد بموضع الجيش من داعٍ ولا مجيب! فجلست عائشة رضي الله عنها في موضعها، فغلبتها عينها فنامت، وهي تعتقد أن القوم إذا فقدوها سيرجعون إليها مرةً أخرى، وكان من وراء الجيش صفوان بن المعطل السلمي رضوان الله عليه، فاقترب صفوان فرأى سواد إنسان نائم، فعرفها فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون)؛ عائشة وقد كان يراها قبل نزول آية الحجاب.

تقول عائشة: (فاستيقظتُ من نومي على استرجاعه -أي: على قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فأناخ راحلته فركبتُها، ووالله! ما سمعت منه كلمةً غير استرجاعه، ثم انطلق يقود بي الراحلة، فأدركنا الجيش وقد نزلوا موغلين في نحر الظهيرة -أي: في وقت شدة الحر- فهلك في شأني مَن هلك، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول.

وفي بعض الروايات في غير الصحيحين: قال المنافق الخبيث: من هذه؟ قالوا: عائشة.

قال: ومن هذا؟ قالوا: صفوان.

فقال الخبيث المجرم -وما أكثرهم اليوم-: زوج نبيكم تبيت مع رجل حتى الصباح، ثم جاء يقودها؟! والله! ما نجت منه، وما نجا منها! فقال قولة عفنة خبيثة شريرة، وتلقفت هذه الكلمات أبواق الدعاية وعصابات الإرجاف والنفاق، وانطلق المنافقون والمرجفون يرددون هذه الكلمات؛ لتنال من عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

رُحماك رحماك يا ألله! رسول الله يُتَّهم في عرضه وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين؟! رسول الله يُتَّهم في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته؟! فيا أيها الدعاة! ويا أيها الشباب! هذا رسولكم يُبتلى هذا رسولكم يُمتحن هذا رسولكم تُصَب الابتلاءات على رأسه يُتَّهم في عرضه يُتَّهم في شرفه يوضع التراب على رأسه يوضع سلى الجزور على ظهره، وبالرغم من ذلك ما قال: يا رب! دعوتُ الناس فلم يستجب لي أحد! وما قال: يا رب! لِمَ تحكم الطواغيت وتمكنهم من رقابنا؟! ولِمَ تحكم الطواغيت وتمكنهم من ظهور الموحدين؟! فإن هذه نغمة أراها تتردد الآن على ألسنة بعض أحبابنا من شبابنا المتحمس الذي اشتد عليه الإيذاء، وكثرت عليه الفتن والمحن، وهذا سوء أدب مع الله يا أخيار! لأن الله جل وعلا يقول عن نفسه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] ورب الكعبة! إنه ليس أحد أغير على الحق وأهله من الله جل وعلا، فلا تتعجلوا النتائج، ولا تسيئوا الأدب مع ربكم جل وعلا، واعلموا أن الحال كما قال عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:٢]، فليس الإيمان كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة عظيمة ذات أعباء، قال عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٣]، وقال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:٢١٤] وليس مثلهم {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ} [البقرة:٢١٤] مَن القائل؟ {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤].

فرسول الله ابتُلي واتُّهم في عرضه وفي شرفه؛ وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته!! وهاهي عائشة رضوان الله عليها تلكم الزهرة التي تفتحت في حقل الإسلام، وسُقيت بمداد الوحي على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ تُرمى في أشرف وأعز ما تعتز به كل فتاة شريفة تُرمى في عرضها تُرمى في شرفها، والمرأة تُتَّهم في كل شيء إذا اتهمت في عرضها وشرفها.

وهذا هو صديق الأمة الأكبر، ذلكم الرجل الرقيق الوديع الحليم الذي بذل ماله وروحه، بل وبذل أولاده لدين الله؛ يُتَّهم بهذا الاتهام الخطير المريب، وفيمن يتهم؟! يتهم في عائشة في زوج رسوله ونبيه ومصطفاه! وهذا هو صفوان بن المعطل يُتَّهم في عقيدته وفي دينه يوم أن يُرمى بخيانة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم! إنه الابتلاء أيها الأحباب! وأنا لا أريد أن أتوقف مع لفظ الحديث بطوله، وإنما أريد أن أتوقف مع محل الشاهد فقط: تقول عائشة رضوان الله عليها: (فلما عدنا إلى المدينة مرضت شهراً كاملاً، وأنا لا أعلم شيئاً عن قول أهل الإفك، إلا أنه يريبني أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنتُ أرى حينما أشتكي، بل كان يدخل رسول الله عليّ ويقول: (كيف تيكم؟! ثم ينصرف) فخرجت ذات يوم لقضاء حاجتها مع أم مسطح، فأخبرتها بقول أهل الإفك، فازدادت مرضاً على مرضها، فعاد إليها الرسول يوماً فقالت: أتأذن لي -يا رسول الله- أن أذهب إلى أبَوَي؟ تقول: وأنا أريد أن أتحقق الخبر من قبلهما، فأذن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم).

الشاهد -أيها الأحباب- أن رسول الله ذهب يوماً لزيارة عائشة، فسلم وجلس إلى جوارها، وكانت امرأةٌ من الأنصار قد جلست إلى جوارها تبكي لبكائها، فتشهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وأثنى عليه، ثم نظر إلى عائشة وقال: (يا عائشة! إنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيبرئك الله عزَّ وجل، وإن كنتِ قد ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا أذنب واعترف بذنبه وتاب إلى الله تاب الله عليه).

لا إله إلا الله! كلمات تهدهد الحجارة، وتفتت الكبد! عائشة تسمع هذا من رسولها ومن حبيبها وزوجها صلى الله عليه وآله وسلم! فلما سمعت عائشة هذه الكلمات جف الدمع في مقلتيها، ونظرت إلى أبيها صديق الأمة الأكبر وهي تريد أن يرد أبوها عنها هذا الاتهام، وهذه الكلمات المزلزلة فقالت: (يا أبت! أجب عني رسول الله، فنظر إليها الصديق -الذي هدهد الألم قلبه، وعصر الإفك فؤاده- نظر إليها نظرة استعطاف وهو يقول: (والله! يا ابنتي! ما أجد ما أقوله لرسول الله) فنظرت البنت المسكينة إلى أمها وقالت: (يا أماه! أجيبي عني رسول الله) فقالت الأم المسكينة -التي عصر الألم كبدها وفؤادها-: (والله! يا بنيتي! ما أجد ما أقول لرسول الله) فبكت عائشة رضي الله عنها، وقالت: والله! ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨]) فصبر جميل يا صويحبات النقاب! والله المستعان على ما يصف المرجفون! فصبر جميل يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! والله المستعان على ما يصف المنافقون! تقول عائشة: ({فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨]، واضطجعت في فراشها وهي تقول: والله! إني لَبريئة، وإن الله مبرئي ببراءة؛ ولكني ما ظننتُ أن يُنزل الله في شأني وحياً يُتلى، فلَشأني في نفسي كان أحقر من أن يُنزل الله فيَّ قرآناً يُتلى؛ ولكني كنتُ أرجو أن يرى رسول الله رؤيا في نومه يبرِّئني الله فيها، فوالله! ما رام رسول الله مجلسه؛ وإذا بالوحي يتنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الوحي إذا نزل عليه عرف الناس منه ذلك من شدة ما يتنزَّل عليه، وصمتت الألسنة، وتوقفت الكلمات، وتعلقت الأبصار برسول الله، وانتهى الوحي، وسُرِّي عن الحبيب، فسُرِّي عنه وهو يضحك، فالتفت إلى عائشة وهو يقول: (يا عائشة! أبشري، فلقد برأك الله من فوق سبع سماوات) فقامت أمها في فرح وسعادة وسرور وقالت لابنتها: (قومي يا عائشة! -أي: قومي إلى رسول الله- فاحمدي، واشكري رسول الله) فقالت عائشة: (لا، والله! لا أقوم إلى رسول الله، ولا أحمد رسول الله، بل لا أحمد إلا الله عزَّ وجل الذي أنزل براءتي من فوق سبع سماوات) وتلا النبي صلى الله عليه وآله