[اشتداد الألم والوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم]
واشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم الألم والوجع، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليطوف على نسائه، فاشتد به الألم في بيت ميمونة رضي الله عنها فاستدعى نساءه واستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة -وكانت أحب أزواجه إليه- فأذن له في ذلك رضي الله عنهن جميعاً، وعاد الحبيب إلى بيت عائشة وهو يتكئ على العباس وعلى علي من شدة الألم والوجع.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت عائشة رضي الله عنها وقد اشتد به الألم والوجع، وفزع الصحابة، وقلق الناس قلقاً بالغاً، وخاف الناس خوفاً شديداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: هريقوا عليَّ من سبع قرب من الماء كما ورد في حديث البخاري من حديث عائشة: هريقوا عليَّ من سبع قرب من الماء، تقول عائشة: فأجلسناه في مخضب -أي: في طست أو إناء - لـ حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذنا وطفقنا نصب عليه الماء حتى قال بيده: قد فعلتن، قد فعلتن.
وفي رواية ابن إسحاق: ظل يقول لهن صلى الله عليه وسلم: حسبكن حسبكن -أي: كفى- فأحس الحبيب صلى الله عليه وسلم بنشاط، فعصب رأسه عليه الصلاة والسلام وخرج إلى الصحابة رضي الله عنهم وقد فزعوا فزعاً شديداً، وقلقوا قلقلاً شديداً، وحزنوا على مرض رسول الله، وخافوا على فراقه صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم وصعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، والتف الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعدما حمد الله عز وجل وأثنى عليه، وصلى على نفسه صلى الله عليه وسلم، واستغفر لأهل أحد، وصلى عليهم، وأكثر عليهم الصلاة، وأكثر لهم الدعاء، ثم قال: أيها الناس! إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، أيها الناس! إني لا أخشى أن تشركوا بعدي ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها كما تنافس فيها من كان قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم.
ثم قال: أيها الناس! إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله، فبكى الصديق رضي الله عنه وارتفع صوته بالبكاء، وعلم أن العبد المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه إلى رسول الله وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فديناك بآبائنا، فديناك بأمهاتنا، فديناك بأموالنا، فديناك بأنفسنا يا رسول الله! فضج الصحابة وقاموا على أبي بكر رضي الله عنه، وقالوا: عجباً لهذا الشيخ! الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم عن عبدٍ خير بين الدنيا والآخرة فاختار ما عند الله عز وجل، فلماذا يبكي هذا الشيخ؟! ولكن الصديق كان أعلم الصحابة برسول الله، وعلم أن العبد المخير هو المصطفى صلى الله عليه وسلم فبكى، فقام الناس على أبي بكر رضي الله عنه، فقال الحبيب: على رسلك يا أبا بكر أيها الناس: إن أمنَّ الناس عليَّ بصحبته وماله أبو بكر، كلكم كان له عندنا يد كافأناه بها إلا الصديق فإنا تركنا مكافأته لله عز وجل، ولو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة وصحبة.
أيها الناس: انظروا إلى هذه الأبواب التي تنفذ إلى المسجد سدوها من اليوم إلا باب أبي بكر رضي الله عنه.
وكما جاء في بعض الروايات رواها البزار وغيره: ثم نظر إليهم صلى الله عليه وسلم وبكى، فبكى الصحابة رضي الله عنهم وقال لهم: حياكم الله، آواكم الله، نصركم الله، رزقكم الله، أيدكم الله، إني أحذركم الله، إني لكم نذير مبين، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أقرئوا مني السلام من تبعني إلى ديني من يومي هذا إلى يوم القيامة -وعليك السلام يا رسول الله- فبكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعاد الرسول وهو يتكئ على العباس وعلى علي رضي الله عنهما فدخل بيت عائشة رضي الله عنها.
واشتد به الوجع، واشتد به الألم، وزاد به المرض، وزادت عليه الحمى صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة رضي الله عنها: دخل عليه عبد الله بن مسعود -كما ورد في صحيح البخاري - فوجد الحمى تشددت برسول الله، فقال: يا رسول الله! إني أراك توعك وعكاً شديداً، فقال الرسول: أجل يا عبد الله! إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم، قال عبد الله: ذلك وأن لك لأجرين يا رسول الله! قال: نعم.
يا عبد الله، فما من مسلم يصيبه أذى حتى الشوكة يشاكها إلا حط الله بها من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها.
تقول عائشة رضي الله عنها: وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري -كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري - تقول: جمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، ولقد جلست وأسندت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري، فدخل عليَّ عبد الرحمن بن أبي بكر بيده سواك، فرأيت رسول الله ينظر إلى السواك، فعرفت أنه يحب السواك، فقلت: يا رسول الله! آخذ لك السواك، فأشار برأسه أن نعم، فأخذت السواك فقضمته ثم لينته، ثم طيبته ثم دفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاك به جيداً كأشد ما يستاك قبل ذلك، فأخذت منه السواك واستكت به، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فكان هذا هو آخر عهدي بريق المصطفى صلى الله عليه وسلم.
واشتد الألم ودخلت فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول يحبها حباً شديداً، فكانت أشبه الناس به، وكانت أحب الناس إليه؛ لأنها هي التي أصابها الله جل وعلا بموته، أما جميع أخواتها متن قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت إذا ما دخلت عليه في حال صحته قام إليها وقبلها بين عينيها، وأجلسها في مجلسه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع القيام، فلما دخلت عليه ووجدته يعاني الألم والمرض أكبت عليه تقبله وهي تبكي، وهي تقول: واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! والرسول يقول لها: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة، لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة، فسارها النبي صلى الله عليه وسلم -أي: التقم أذنها وأعطى لها سراً- فبكت فاطمة رضي الله عنها وانطلقت، فنادى عليها فعادت إليه، فقال لها سراً آخر فضحكت، فلما سئلت عن ذلك؟ قالت: أخبرني أنه سيموت في وجعه هذا، فبكيت، ولما عدت إليه أخبرني أني أول أهل بيته لحوقاً به فضحكت واستبشرت لذلك.
وفي رواية أخرى قال لها: يا فاطمة! إن جبريل كان يعاودني القرآن في كل عام مرة، وأراه قد عاودني القرآن في هذا العام مرتين، وما أراه إلا قد اقترب أجلي يا فاطمة، فبكت فاطمة رضي الله عنها، فقال لها الحبيب صلى الله عليه وسلم: يا فاطمة! إني أعلم أنك أشد نساء المسلمين مصاباً بي بعد موتي، فلا تكوني أقل امرأة منهن صبراً، فاصبري يا ابنتي واحتسبي أجرك عند الله، فخرجت فاطمة تبكي وهي تقول: احتسبتك عند الله يا رسول الله! احتسبتك عند الله يا رسول الله! احتسبتك عند الله يا رسول الله! وخرجت فاطمة تبكي رضي الله عنها.