للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قلوب الصالحين خاشعة]

رابعاً: قلوب الصالحين قلوب وجلة خاشعة، اللهم ارزق قلوبنا الخشوع وعيوننا الدموع.

قلوب الصالحين قلوب وجلة خائفة خاشعة: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] قالت عائشة رضوان الله عليها: (يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخشى ألا يتقبل الله منه)، فالصالح وجل يخشى من مكر الله، ويخشى من سوء الخاتمة، وتراه خاشعاً دائماً بين يدي ربه جل وعلا.

وأصل الخشوع قيام القلب بين يدي الرب بالذل والخضوع، روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:١٦] إلا أربع سنين)، استبطأ الله جل وعلا قلوب هؤلاء، فأنزل هذه الآية بعد أربع سنوات من إسلامهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ} [الحديد:١٦]! أما آن لقلوبنا أن تخشع؟! أما آن لقلوبنا أن تخشع لذكر الله؟! أما آن لقلوبنا أن تخشع لمناهي الله؟! أما آن لقلوبنا أن تقف عند حدود الله؟! أما آن لعيوننا أن تبكي من خشية الله جل وعلا؟ فوالله والله ما خلا قلب من الخوف والخشية إلا وقاده الشيطان إلى كل فتنة وهوى، وما ملئ قلب بالخوف من الله جل وعلا إلا ودله الخوف على كل خير في الدنيا والآخرة، نعم، قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد! إننا نجالس أقواماً يخوفوننا بالله جل وعلا حتى تكاد قلوبنا أن تطير من شدة الخوف، فقال الحسن: يا أخي! والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك في الدنيا حتى يدركك الأمن في الآخرة خير من أن تخالط أقواماً يؤمنونك في الدنيا حتى يدركك الخوف في الآخرة.

فالخوف من الله جل وعلا سمة رئيسية من سمات الصالحين، لا يتخلون عنها أبداً فوق أي أرض وتحت أي سماء أبداً، فالصالح مراقب لربه، فإن خلا بنفسه يقول لنفسه: الله يسمعني، الله يراني! إن أغلق على نفسه حجرته، وأمسك بيده بماوس كنترول ليبحث عن أي شيء مخالف لأمر الله ورسوله، فليتذكر ربه سبحانه وتعالى، ويهتف في قلبه هاتف الخوف من الله جل وعلا: الله يسمعك! الله يراك! ألم تعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع على سرك ونجواك؟! قال جل وعلا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:٧] جل وعلا، فهو معهم بسمعه معهم ببصره معهم بإرادته تبارك وتعالى وعلمه: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب فالصالح صاحب قلب وجل خائف يخشى الله تبارك وتعالى مع صلاحه، مع صدقه، مع إخلاصه، مع عمله لله تبارك وتعالى، مع امتثاله للأمر، مع اجتنابه للنهي، مع توبته إن زلت قدمه في بؤرة معصية، ومع ذلك فهو يخشى الله جل وعلا.

أيها الأحبة: هاهو نبينا صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه البخاري وغيره- لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه -وعثمان بن مظعون أول من لقب بالسلف الصالح، وأول من دفن بالبقيع، وممن شهدوا بدراً، والرسول يقول: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم-)؛ ثبت في رواية ضعف سندها بعض أهل العلم: أنه لما مات قبّله النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه وبكى، وسالت دموع النبي على خدي عثمان رضي الله عنه.

هذا الرجل المبارك لما مات قالت امرأة من الأنصار يقال لها أم العلاء: (رحمة الله عليك أبا السائب) تقصد عثمان بن مظعون، ثم قالت أم العلاء: (شهادتي عليك أن الله أكرمك، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟! قالت: سبحان الله فمن؟!) تعني: فمن هذا الذي يكرمه الله إن لم يكرم الله عثمان بن مظعون؟ (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه الحق وقد جاءه اليقين، ووالله إني لأرجو له الخير، ثم قال -بأبي هو وأمي-: والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم).

وهاهو عمر فاروق الأمة الأواب الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم شهادة لم تتردد في أذن التاريخ بعدها أبداً حين قال: (إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده لو رآك الشيطان سالكاً فجاً لتركه لك، وسلك فجاً غير فجك)، والحديث في الصحيحين، وعندما ينام على فراش الموت وجرحه يتفجر دماً، ويدخل عليه ابن عباس رضي الله عنهما فيقول: (أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! فلقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راض، وصحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راض، وصحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن توفيت اليوم فوالله إنهم عنك لراضون، ثم شهادة في سبيل الله، فبكى عمر وقال: والله إن المغرور من غررتموه! والله إني لأرجو أن أترك الدنيا لا لي ولا علي، ثم بكى وقال: والله لو أن لي طلاع الأرض -أي ملء الأرض- ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه) وهذا معاذ بن جبل مقدام العلماء، وإمام الحكماء، سيد من سادات الصالحين الأتقياء، السمح السري، السهل السخي، حبيب الحبيب النبي، لما ابتلي بالطاعون في بلاد الشام، ونام على فراش الموت، قال لأصحابه: انظروا هل أصبح الصباح؟ فنظر أحدهم وقال: لا.

لما يصبح الصباح بعد! فسكن معاذ، ثم قال مرة أخرى: انظروا هل أصبح الصباح؟ قالوا: لا بعد! فسأل في الثالثة: هل أصبح الصباح؟ قالوا: لا بعد! فبكى معاذ بن جبل وقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنني ما أحببت الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لمكابدة الساعات، وظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء في مجالس الذكر)، ثم فاضت روحه إلى الله جل وعلا.

وهذا سفيان الثوري ينام على فراش الموت، فيدخل عليه حماد بن سلمة فيرى سفيان يبكي بكاءً شديداً وهو إمام الزهد والعلم والورع، فيقول رجل في مجلسه: يا إمام! أتخشى ذنوبك؟! فيأخذ سفيان عوداً صغيراً من الأرض ويقول: لا والله لذنوبي أهون عندي من هذا، ثم بكى سفيان الثوري وقال: ولكني والله أخشى أن يسلب إيماني قبل الموت.

وهذا الشافعي الإمام العلم، ينام على فراش الموت، فيدخل عليه المزني فيقول: كيف حالك يا إمام؟ فيقول الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولربي ملاقياً، ولا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها.

هؤلاء هم الصالحون مع صلاحهم يخشون الله، قلوب وجلة، قلوب خاشعة خاضعة لا تغتر بعلم، ولا تغتر بعمل، ولا تغتر بتعبد، ولا تغتر بمكان أو بمكانة أو بجاه.