[تنحية الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية]
أولاً: لا شك أن أخطر عرض من أعراض الهزيمة النفسية التي نكبت بها الأمة في هذا العصر الحديث هو تنحية الشريعة الربانية وتحكيم القوانين البشرية، أخطر عرض بلا منازع، لم يتصور أحد من أئمة السلف الذين قالوا: كفر دون كفر أن ترمى الشريعة في يوم من الأيام بالجمود، أو الرجعية، أو التخلف، أو القصور، أو عدم القدرة على مسايرة روح العصر أو المدنية العصرية الحديثة، أبداً ما شهدت الأمة رمياً للشريعة بالكلية كما تشهده الآن من تنحية الشريعة الربانية وتحكيم القوانين البشرية من صنع المهازيل من خلق الله؛ وهذا أخطر عرض للانهزام النفسي الداخلي، ما كان لمسلم أبداً أن يتصور ذلك، والله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠] فالأيام دول، ولا شك أن الدولة الآن للغرب الذي كسب الجولة الأخيرة بلا منازع، ومن عادة المغلوب أن يحاكي المنتصر في كل شيء، من عادة المهزوم نفسياً أن يقلد المنتصر الغالب في كل شيء، فذهبت الأمة المهزومة عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً ونفسياً تقلد الغرب الذي انتصر وكسب الجولة الأخيرة؛ حتى خرج علينا من بني جلدتنا من يقول بالحرف: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئتهم والنجاسات التي في أمعائهم، انهزام خطير جداً، لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، نحن لا ننكر أن تنقل الأمة أروع ما وصل إليه الغرب في الجانب المادي ما لم يصطدم بعقيدتنا وأخلاقنا وديننا، لا ننكر ذلك ألبتة، لكن بكل أسف تركت الأمة أروع ما وصل إليه الغرب من تكنيكٍ علمي مذهل في الجانب المادي -ونحن لا ننكر ذلك على الإطلاق- وذهبت لتنقل أعفن وأقذر وأحط ما وصل إليه الغرب في الجانب العقدي والأخلاقي والروحي، كما قال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى والحديث مخرج في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) ذابت الأمة في بوتقة الغرب المنتصر في هذه الجولة، والذي أصبح إلهاً يعبد لدى الكثيرين من الناس، بل ممن ينتسبون إلى الدين.
ولله در القائل:
قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهراً تغرينا
لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسرّ حزيناً
الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا
الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يدٌ أفدى لها السكينا
الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا
الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلامَ يحمل قومنا الزيتونا
كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا
أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا
وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا
وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا
ظنت الأمة المسكينة أنها بتنحيتها لشريعة الملك المحكمة المطهرة التي ضمن الله بها السعادة للبشرية كلها في الدنيا والآخرة أنها ستنجح ظنت الأمة المسكينة التي استبدلت بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، ظنت أنها بتمحيص شريعة الله المحكمة وبتحكيم القوانين الغربية الوضعية البشرية أنها قد ركبت قوارب النجاة وسط رياح هوجاء متلاطمة؛ فخابت الأمة وخسرت وغرقت وأغرقت، ولا زالت الأمة تجني ثمار الخسران والضياع والهوان مصداقاً لقول الله عزوجل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:١٢٣ - ١٢٤].
عرض خطير وهو في نظري أخطر أعراض الهزيمة النفسية، أن تصل الأمة إلى حالة من الذل والعار والهوان والاستسلام إلى أن تنحي شريعة الرحمن جل وعلا، وأن تحكم في الأعراض والأموال والدماء والفروج القوانين الوضعية الفاجرة من وضع المهازيل من خلق الله، من العلمانيين والشيوعيين، والديمقراطيين والساقطين، والراقصين والرويبضة على ظهر أرض رب العالمين، وصدق سيد النبيين صلى الله عليه وسلم إذ يقول والحديث رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) فوالله لم يعد التافهون يتكلمون في أمر العوام بل تطاول التافهون اليوم على أمر الإسلام.