واختلفت الأقوال في المدة التي مكثها نبي الله في البلاء، وأصح ما ورد من هذه الأقوال ما رواه الإمام الطبري، وابن حبان وابن أبي حاتم والبزار والحاكم في مستدركه وصححه على شرط الشيخين، وقال الهيثمي في المجمع: ورجال البزار رجال الصحيح.
من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:(إن نبي الله أيوب مكث في بلائه ثماني عشرة سنة)، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من خواص أصحابه كانا يغدوان عليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر في يوم من الأيام: والله إن أيوب قد أذنب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: مرض ثماني عشرة سنة ولم يرحمه الله! إلى آخر الحديث، قال أهل التفسير: فلما سمع أيوب بذلك خشي الفتنة، فلجأ إلى الله تعالى بهذا الدعاء الحنون، الذي سجله الله في قرآنه فقال جل وعلا:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:٨٣] فأجاب الله دعاءه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}[الأنبياء:٨٤] ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ هل انتقل أيوب إلى إحدى المستشفيات الخاصة في الخارج أو في الداخل؟ كلا، إذاً: ما الذي حدث؟ أمر الله جل وعلا نبيه أيوب أن يضرب الأرض من تحت قدميه، فضرب أيوب المريض المسكين الأرض ضربة هينة بقدمه, ففجر الله له عيناً من الماء، وإذ بأيوب يسمع النداء من الملك:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:٤٢] أمر الله أيوب أن يشرب فشرب أيوب من الماء فشفاه الله من جميع أمراضه الباطنة، وأمره أن يغتسل فاغتسل، فشفاه الله من جميع أمراضه الظاهرة، وصدق الله إذ يقول:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنعام:١٧].
أيها المبتلى! كن عن همومك معرضاً ودع الأمور إلى القضا وانعم بطول سلامة تسليك عما قد مضى فلربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا الله يفعل ما يشاء فلا تكن متعرضا وقال آخر: قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداكا قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا وسل البصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا وسل الجنين يعيش معزولا بلا راع ومرعى من الذي يرعاكا وإذ ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث من الذي صفاكا {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}[آل عمران:١٥٤] , {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}[النمل:٦٠] , {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:٤٢] فاغتسل نبي الله وشرب، فشفاه الله عز وجل وعافاه، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة (أمطر الله عز وجل عليه بعدما عافاه جراداً من ذهب، فقام نبي الله أيوب ليأخذ الجراد الذهبي من ربه العلي ليضعه في ثوبه، فنادى عليه ربه جل وعلا وقال: يا أيوب أما تشبع؟! فقال أيوب: ومن يشبع من رحمتك يا رب!)، وهكذا نجى الله أيوب ورفع الله عنه البلاء، بعد هذه السنوات الطوال من الصبر الصادق.
وأود قبل أن أنهي الحديث عن هذا العنصر أن أحذر من لا يجيدون السباحة في البحور الهائجة، ومن لا يجيدون النزال عند اقتحام الخطوب والأهوال، من أمثال هؤلاء الذين انساقوا وراء إسرائيليات خطيرة شحنت بها قصة أيوب، في كتب التفسير وكتب السير، فانساقوا ليرددوا هذا الكذب العريض، وأن الله قد ابتلى نبيه أيوب بالدود! وكانت كلما سقطت دودة من جسده انحنى عليها وردها إلى جسده مرة أخرى! وانبعثت منه رائحة كريهة نتنة! اشمأز الناس منها وانصرف الناس عنه! هذا كذب عريض، وكذب حقير خطير، يمتهن العقول السليمة والطباع الكريمة، التي تعلم يقيناً أن الله جل وعلا قد نزه أنبياءه ورسله عن مثل هذا.
فاعلم أيها المسلم! أن الله جل وعلا ما ابتلى نبيه أيوب بمثل هذه القاذورات، وإنما ابتلاه بمرض ألزمه الفراش وأقعده في الأرض، وفي هذا كفاية، لكن أين الصبر وأين الصابرون؟! أيها الحبيب الكريم! لا أريد أن أطيل في هذا العنصر، قال الله جل وعلا:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}[ص:٤٢ - ٤٣].