{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً}[مريم:٢٢] لما اتسع بطنها بالحمل، وكادت المدة أن تنتهي، وبدأ الخبر يتسرب إلى بني إسرائيل، واغتم بيت آل عمران غمة شديدة، فقد كانت شائعة مدوية، دوت في أرجاء بني إسرائيل، وما أدراكم من بنو إسرائيل في تزوير وإشاعة الشائعات والفاحشة! امتلأت البيوت بهذا الخبر المزري، وقالوا: ما فعل هذه الفعلة إلا يوسف النجار، فهو معها في خلوة واحدة، وفي مكان واحد.
ولما ضاق صدر مريم عليها السلام بهذه الشائعات والكلمات التي تزلزل قلب أي امرأة فضلاً عن العذراء الطاهرة العفيفة الشريفة، خرجت مريم عليها السلام ومعها حملها:{فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً}[مريم:٢٢] أي: ذهبت إلى مكان بعيد، واختفت عن أعين الناس حتى لا يراها الناس ولا ترى الناس، وفجأة كما يقول الحق جل وعلا:{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ}[مريم:٢٣] فأجاءها إجاءةً، أجاءها الطلق حتى اضطرها إلى جذع نخلة لتتمسك به، وتعض عليه من شدة الألم {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}[مريم:٢٣] تألمت وهي العذراء التي لا علم لها بمثل هذا الأمر قبل ذلك، ولا يوجد معها امرأة تعينها، وتعلم كل امرأة على وجه هذه الأرض هذه الآلام المضنية، التي تتعرض لها الأنثى أثناء الولادة، فضلاً عن عذراء تلد لأول مرة ولا يوجد معها أنيس ولا جليس.
ولما رأت أن الأمر قد انتهى، وأن المدة قد انتهت، وأن الولد سينزل عن قريب؛ قالت بصوت ضعيف:{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً}[مريم:٢٣] يا ليتني لم أواجه مثل هذا اليوم، وهي تقول ذلك برغم الوعد الكريم الذي وعدها به جبريل عليه السلام، ولكنها تقول ذلك خوفاً من الناس الذين سيقعون في عرضها حين يتكلمون عنها، وقالت ذلك خوفاً من مواجهة الفضيحة أمام الناس من منظورهم البشري.
{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}[مريم:٢٣] في هذه الآية دليل شرعي على جواز تمني الموت إذا ما وقع العبد في مصيبة أو فتنة يخشى منها ضياع الدين، ولكن يكره أن يتمنى العبد الموت إذا وقع به ضر أو بلاء من بلاء الدنيا، كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان ولا بد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي).