[أقوال العلماء في وقت تنزل الملائكة على أهل الاستقامة]
أيها الأحبة! يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:٣٠] هذا فضل الاستقامة على الإيمان: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:٣٠] وفي وقت تنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة قولان: الأول: قاله مجاهد والسدي وزيد بن أسلم، قالوا: تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة وهم على فراش الموت، إذا نزل بهم الخطب الأفضع، والأمر الأشنع، وسكرات الموت، التي لا يستطيع أي بليغ أو فصيح مهما أوتي من بلاغة وبيان أن يعبر عنها على الإطلاق؛ لأن هذا مما لا يدرك إلا إذا واقعه وعاينه الإنسان بنفسه.
لقد خشيت عائشة على رسول الله حينما نزلت به سكرات الموت، وقالت: إنها لا تنكر بعد ذلك شدة الموت على أحد بعد ما رأت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المصطفى لما نزلت به السكرات يضع يده في ركوة بها ماء، ويمسح العرق عن جبينه الأزهر الأنور ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) والحديث في صحيح البخاري، وفي لفظ لـ أحمد: (كان المصطفى يقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم هون عليَّ سكرات الموت) إنه خطبٌ فضيع، وفي هذه اللحظات -أيها الأخيار- يأتي الشيطان ليجتال وليصرف الإنسان عن حقيقة الإيمان، كما ثبت مع الإمام أحمد وقرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى وقال: منهم -أي: من الناس- من تحضره الملائكة لتقول له ذلك، ومنهم من لا يقال له ذلك، إلا أن الموقف رهيب عصيب في هذه اللحظات، لحظات السكرات والكربات والضيق والهم، لحظة أن يعاين الإنسان الحقيقة، تتنزل إليه الملائكة إن كان من أهل الإيمان والاستقامة لتبشره بهذه البشارة: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:٣٠] من أنتم؟ {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا} [فصلت:٣١]-أي في الجنة- {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣١ - ٣٢].
ثبت في سنن ابن ماجة بسند صححه الشيخ الألباني، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال من حديث أبي هريرة: (تحضر الملائكة -أي: عند الموت- فإذا كان الرجل صالحاً تقول الملائكة: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان، ورب راضٍ غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج) فالملائكة تبشر أهل الإيمان والاستقامة وهم على فراش الموت بهذه البشارة العظيمة.
القول الثاني: قاله ابن عباس وابن أبي حاتم وغيرهما، قالا: تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة عند الخروج من القبور يوم البعث والنشور، يوم الفضيحة، نسأل الله أن يستر علينا وعليكم، ترى الفضائح في هذا اليوم، إذ أن كل عبدٍ سيبعث من قبره على ما مات عليه من طاعة أو معصية، ولك أن تتصور -بالله عليك- هذا المشهد، ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث كل عبدٍ على ما مات عليه).
إن عشت على الطاعة مت على الطاعة وبعثت عليها، وإن عشت على المعصية -عافاني الله وإياك- مات صاحب المعصية عليها وبعث عليها.
يقول الحافظ ابن كثير طيب الله ثراه: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فإن عشت على الطاعة مت على الطاعة وبعثت عليها، وإن عاش الإنسان على المعصية مات عليها وبعث عليها.
والله يا إخوة -وسوف أفرد لذلك إن شاء الله محاضرة لخطورة الأمر- لقد حدثني أخ من المنصورة عندنا في مصر عن جارٍ كان يسكن فوقه، وكان مدمن للغناء وما عرف للمسجد طريقاً ولا سبيلاً، ذكروه بالله فما تذكر، فكبر الرجل وكان مولعاً بـ أم كلثوم، فلما نام على فراش الموت لا زال الغناء يملأ أركان البيت، مع أن ملائكة الله جل وعلا قد وجدت الرجل يحتضر، يقول: فلما علمت ذلك وسمعت صراخ النساء صعدت إليهم، فرأيت الرجل يحتضر، فبكيت وقلت: اتقوا الله، أبوكم يموت ويحتضر وأنتم لا زلتم تضعون شريط الغناء، أهذا وقت غناء؟ ضعوا شريطاً للقرآن لعل الله أن ييسر عليه، يقسم بالله أنهم استجابوا لذلك، فامتدت يده على شريط الغناء ونزل فأتى بشريط للقرآن، يقول: حينما وضعت شريط القرآن في المسجل، وإذ بالرجل على فراش الموت ينظر ويقول: دع الغناء فإنه ينعش قلبي، وما تكلم بعدها!! وفي الشهر الماضي كان هناك رجل في منصب يصد عن سبيل الله وعن دينه، وهو في كامل فتوته وشبابه، أصيب بألم بسيط في بطنه، وأراد أن يخرج ما في جوفه، فدخل إلى الخلاء -أعزكم الله- ومن كثرة ما غلبه القيء لم يقو على أن يقف، فبرك على ركبته أمام الحمام الأفرنجي المعلوم ليخرج ما في جوفه، وظل يقيئ ويقيئ حتى صرخ صرخة فخرجت فيها روحه، ووجهه في هذا المكان القذر النجس.
لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، وهذا شيخنا المبارك الشيخ كشك رحمه الله وغفر له، مات في اليوم الذي أحبه من كل قلبه، في يوم الجمعة، دخل الخلاء فاغتسل وخرج، ثم لبس ثوبه الأبيض وتطيب وصلى ركعتين في بيته، وأراد أن يصلي ركعتين ليخرج إلى المسجد المجاور إلى بيته، فصلى الركعة الأولى في كامل قوته وصحته، فلقد كنت عنده قبل موته بثلاثة أيام، الرجل في صحة، وفي الركعة الثانية وهو يركع سقط على الأرض، فأسرع إليه أهله فوجدوا روحه قد فاضت إلى الله جل وعلا.
لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، ففي هذا اليوم العصيب يوم الفضائح -نسأل الله الستر والعافية- يخرج أهل الإيمان والاستقامة من القبور، فتستقبلهم ملائكة العزيز الغفور بالبشارات: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٠ - ٣٢] نزلاً، أي: ضيافة وإكراماً وإنعاماً من غفور رحيم، غفر لكم الذنوب ورحمكم في يوم الأهوال والكروب.
هذا جزاء المؤمنين المستقيمين على طاعة رب العالمين جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم لـ سفيان بن عبد الله: (قل آمنت بالله ثم استقم) وهأنذا أذكر نفسي وأقول لها: قولي: آمنت بالله ثم استقيمي، وأذكر إخواني قولوا: آمنا بالله ثم استقيموا على درب الإيمان، وعلى درب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله أسأل أن يختم لي ولكم بالإيمان، وأن يرزقنا وإياكم الاستقامة على الإيمان، وأن يبعثنا في زمرة الموحدين تحت لواء قدوة المحققين، وسيد النبيين، إنه ولي ذلك ومولاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.