[طريق النجاة]
أيها الأحبة الكرام! طريق النجاة من هنا فلا ينبغي أن نشخص الداء بحسرة ومرارة وألم دون أن نحدد الدواء، ودون أن نبين طريق النجاة.
أيها المسلمون! إن طريق النجاة في كلمة واحدة، وليس معنى ذلك أن نرددها بالألسنة فحسب، وإنما لترددها الأمة باللسان، ولتصدقها بالجنان، ولتحولها إلى واقع عملي بالجوارح والأركان.
إن هذه الكلمة هي الإسلام، فمستحيل أن ينصر الله أمة خذلت دينه وخذلت نبيه! إن الأمة الآن تتغنى في مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأخلاق النبي وهي أمة لا تستحي إلا من رحم ربك العلي، فإنها في الوقت الذي تتغنى فيه بمولد النبي وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم تراها قد نحت شريعة النبي، وحكّمت قانون الغرب العلماني، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:٦٥]، و (لا) هي لا النافية كما قال علماء اللغة {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥].
أيها الأحباب! لقد كانت الأمة في أول الأمر -بالمقارنة إلى ما تحياه الأمة الآن- ضعيفة من الناحية المادية، قليلة من الناحية العددية، فقيرة من الناحية المالية، لكنها كانت غنية بالإيمان، قوية بالله فماذا كانت النتيجة؟ كلكم يعلم النتيجة.
قلة في أرض الجزيرة وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، وسط إمبراطورية الفرس وإمبراطورية الروم استطاعت هذه القلة المؤمنة بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن تقيم للإسلام دولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق مع قلة العدد مع الفقر المادي المرهق مع الضعف الجسدي، ولكنهم كانوا أعزة بالرب العلي: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٣٩]، قالوا كلمة وحولوها إلى واقع عملي وإلى منهج حياة، فأذلوا كسرى وأهانوا قيصر.
ولله در ربعي بن عامر رضي الله عنه عندما وقف يوماً أمام رستم، فعلمه وعلمنا كيف تكون العزة بالإسلام! لقد دخل ربعي بن عامر في موقعة القادسية على قائد الجيوش الكسروية رستم الذي قال عنه كسرى: (لأرمين المسلمين بقائدي الذي ادخرته ليوم الكريهة)، وولى كسرى رستم قيادة الجيوش الكسروية، وكانت الكرة للمسلمين بأمر الله، وأراد رستم أن يفاوض سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فأرسل إليه: أن أرسل إلينا رسولاً لنفاوضه، فأرسل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ربعي بن عامر رضي الله عنه، فانطلق ربعي على فرس قصيرة، يلبس ثياباً متواضعة ممزقة، وفي يده رمحه وعلى بدنه ترسه ودرعه، فأرادوا أن يمنعوه من الدخول وهو على ظهر فرسه على سيدهم رستم، فقال ربعي بلغة الواثق في الله المطمئن لدين الله العزيز بالإيمان: أنا لم آتاكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا عدت، فقال رستم: ائذنوا له، فدخل ربعي وهو يتكئ برمحه بعز واستعلاء بالإيمان، فصرخ في وجهه رستم، وقال: من أنتم؟ ولماذا جئتم؟ فقال ربعي ليعلم رستم ويعلمنا من بعده ما هي الغاية التي من أجلها ابتعثنا، ولأجلها وجدنا، قال ربعي: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبل منا قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس إلى دين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله.
قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات في سبيل الله، والنصر لمن بقي منا على ذلك.
فقال رستم: لقد سمعت مقالتك، فهل لكم أن تؤخرونا لننظر في أمرنا ولتنظروا في أمركم؟! فقال ربعي بعزة وإيمان عجيبين: لقد سن لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن لا نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ليال، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر لنفسك واحدة من ثلاث.
فقال رستم: وما هي؟ قال ربعي: أما الأولى فالإسلام، ونقبل ونرجع عنك.
قال رستم: وما الثانية؟ قال ربعي: الجزية.
الجزية التي تدفعها الأمة الآن رغم أنفها، فإن الفاتورة الأمريكية تسدد من دول الإسلام ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال رستم: وما الثالثة؟ قال ربعي: القتال في اليوم الرابع! أي: بعد ثلاثة أيام، ثم قال ربعي: ولن نبدأك بقتال فيما دون الثلاثة إلا إن بدأتنا أنت بقتال، أنا كفيل بذلك عن أصحابي.
فقال رستم: أقائدهم أنت؟ أي: هل أنت القائد؟ هل أنت سعد بن أبي وقاص؟ فقال ربعي: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، يجير أدناهم على أعلاهم.
انظروا إلى عز الأسلاف انظروا إلى استعلاء الإيمان في قلوبهم انظروا إلى اعتزازهم بربهم ودينهم، ونصرتهم بكل ما يملكون لنبيهم صلى الله عليه وسلم.
لقد وقف المغيرة بن شعبة يظلل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، فجاء عروة بن مسعود الثقفي ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم كرسول من قبل قريش، وامتدت يد عروة بن مسعود ليداعب شعرات كريمات طاهرات طيبات من لحية الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فضرب المغيرة بن شعبة على ظهر يد عروة مع أنه ابن أخيه وصرخ في وجه عروة وقال له: أخر يدك عن لحية النبي قبل أن لا تصل إليك يدك.
انظروا إلى نصرة هؤلاء لدين الله ولدين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! أيها الأحباب! والله إن الإسلام لن ينصر بالخطب الرنانة، ووالله لو وقفنا على المنابر نخطب سنوات وسنوات فلن ينتصر الإسلام إلا إذا تحولت هذه الخطب في واقع الأمة إلى منهج حياة يتألق سمواً وعظمةً وجلالة.
منذ متى والعلماء يخطبون ولكن الأمة لا تغير من واقعها المرير شيئاً؟ أيها الأحباب! إننا نرى انفصاماً واضحاً بين منهجنا وواقعنا، فالخطب الرنانة المؤثرة لن تغير من الواقع شيئاً إلا إذا غيرت الأمة الواقع بتحويلها لهذا الكلام الرباني والنبوي إلى منهج عملي في دنيا الناس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:٢ - ٤].
إن طريق الإسلام هو طريق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:١٥٣].
إن طريق النجاة أن تمتثل الأمة أمر ربها وأمر نبيها، وأن تجتنب الأمة نهي ربها ونهي نبيها، وأن تقف الأمة عند حدود ربها وحدود نبيها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:١ - ٢].
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:٣٦].
قال تعالى في وصف المؤمنين الصادقين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:٥١ - ٥٢].
وقال تعالى في المنافقين المجرمين الذين يقولون بألسنتهم سمعنا وأطعنا ولكنهم في الواقع يقولون: وعصينا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:٦٠ - ٦١].
طريق الفلاح بين واضح جلي لكل من كان في قلبه تقىً لله، وما علينا إلا أن نرجع إلى الله وإلى قرآنه وسنة نبيه، فالعودة إلى القرآن والسنة ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، بل إننا أمام شرط الإسلام وحد الإيمان: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]، أسأل الله جل وعلا أن يرد الأمة إل