[سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله)]
أولاً: في رحاب آية: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:٢٧].
ذكر المفسرون أن هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال نزلت في حق أبي لبابة بن عبد المنذر، وهو صحابي جليل رضي الله عنه، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني قريظة لما نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحرج الأوقات، فلقد حاصر الأحزاب من المشركين المدينة من كل جانب، وكان بين رسول الله وبين اليهود عهد، فترك داخل المدينة مع اليهود النساء والأطفال والأموال، ولكن اليهود متخصصون في نقض العهود كما ذكرنا ذلك مراراً، فلقد نقض اليهود العهد مع الله جل وعلا، ومع جميع الأنبياء والمرسلين، وأسأل بمرارة وأقول: أفينقض اليهود العهود مع الأنبياء والمرسلين بل ومع رب العالمين ثم بعد ذلك يفي اليهود بالعهود للزعماء والحكام؟! لقد نقض اليهود العهد في أحرج الأوقات، حتى بلغت القلوب الحناجر، فالمشركون يحاصرون المدينة من كل جانب، ونقض اليهود داخل المدينة العهد؛ فشكلوا تحدياً داخلياً خطيراً مروعاً، حتى قال المنافقون يومها قولتهم الخبيثة: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:١٢].
بل لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم يتضرع إلى الله جل وعلا -كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى - ويقول: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم) واستجاب الله لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، فأرسل جندياً من عنده، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:٣١]، فأرسل الله الريح فكفأت قدور الأحزاب، واختلعت خيامهم، وقذف الله الرعب في قلوبهم، وتبعثروا في أرض الصحراء كتبعثر الفئران، وهزم الله الأحزاب وحده، ونصر عبده، وأعز جنده جل جلاله، ومنَّ الله على النبي والمؤمنين بهذا النصر الذلول، ودخل النبي بيت عائشة ووضع سلاحه، وخلع لباس الحرب؛ وإذ به يرى جبريل عليه السلام ما زال يلبس لباس الحرب، ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (أوقد وضعت سلاحك يا رسول الله؟! فإن الملائكة لم تضع أسلحتها بعد، فقم بمن معك إلى يهود بني قريظة، فإني سائر أمامك؛ لأقذف الرعب في قلوبهم، ولأزلزل حصونهم)، والحديث في الصحيحين من حديث عائشة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر منادياً أن ينادي في أصحابه: (من كان طائعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فخرج الأطهار الأبرار، وخرج أمامهم النبي المختار، وكان جبريل قد انطلق بمجموعة من الكتائب الملائكية؛ ليقذف الرعب في قلوب يهود بني قريظة، وليزلزل بهم حصونهم.
وهنالك حاصر المسلمون يهود بني قريظة خمساً وعشرين ليلة على الراجح من أقوال المحققين من أهل العلم، حتى نزل اليهود على حكم سعد بن معاذ، لكنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر؛ ليستشيروه في هذا الأمر، ولماذا أبو لبابة؟ لأنه كان حليفاً لليهود، وكان ماله وعياله عندهم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة إلى يهود بني قريظة، فاستشاروه -فتدبروا معي أيها الأفاضل! - فأشار عليهم أبو لبابة إشارة بيده دون أن ينطق، أشار بيده إلى حلقه، يعني: إنه الذبح، فإن نزلتم على حكم سعد بن معاذ فسيقتل رجالكم، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال، وقد صرحت رواية الإمام أحمد بسند حسنه العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى بأن أبا لبابة قد قال بالفعل: إنه الذبح، يعني: ستذبحون، فتصوروا وتدبروا ماذا فعل أبو لبابة، أشار إلى حلقه فقط أو قال: إنه الذبح.
قال أبو لبابة: (فوالله! ما تحركت قدماي إلا وقد علمت أني قد خنت الله ورسوله) فعاد إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظروا إلى هذه الضمائر التي رباها القرآن، انظروا إلى هذه القلوب والمشاعر التي ربها النبي عليه الصلاة والسلام، أشار أو قال كلمة فعلم أنه قد وقع في الخيانة، فعاد إلى المسجد النبوي وربط نفسه في سارية، أي: في عمود من أعمدة المسجد، وأقسم بالله ألا يأكل طعاماً أو شراباً حتى يموت أو يتوب الله عليه، ومكث في هذا الموطن تسعة أيام لا يذوق طعاماً حتى أشرف على الهلاك والموت بالفعل إلى أن أنزل الله عز وجل توبته على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:٢٧]، فلم يخرجه بهذا الذنب من الإيمان، ولا من صفوف المسلمين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:٢٧].
وجاء بعض الصحابة وهم يتهللون فرحاً إلى أبي لبابة بن عبد المنذر في المسجد النبوي، وأرادوا أن يفكوا قيده فأبى وقال: (والله! لا يفك قيدي إلا رسول الله بنفسه!) فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم ففك قيده بيده، وقرأ عليه الآية، وبشره بتوبة الله عليه، فقال أبو لبابة: (يا رسول الله! إني كنت قد نذرت لله أن أخرج من كل مالي إن تاب الله عليّ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يجزيك الثلث) أي: تصدق بالثلث فحسب، هذا هو سبب من أسباب نزول هذه الآية.
وقد ذكر بعض المفسرين أن الآية نزلت في حق حاطب بن أبي بلتعة، وقصة حاطب بغير سبب النزول ثابتة في الصحيحين، فلقد أمر النبي الصحابة أن يكتموا خبر خروجه إلى مكة فاتحاً؛ حتى يفتح مكة على غرة دون أن تسفك دماء في بلد الله الحرام، ولكن حاطب بن أبي بلتعة في لحظة ضعف أراد أن تكون له مكانة عند المشركين في مكة، فكتب كتاباً، ووضعه في شعر امرأة، وانطلقت المرأة بهذا الكتاب لتخبر المشركين في مكة بغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
ولكن الله أطلع نبيه على خبر هذا الكتاب، فأرسل النبي علياً رضي الله عنه مع نفر من أصحابه، فأحضر هذا الكتاب من شعر هذه المرأة، ودفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة، فاعترف حاطب وأقر بذنبه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (دعني أضرب عنقه يا رسول الله! فلقد خان الله ورسوله والمؤمنين) فماذا قال من هو بالمؤمنين رءوف رحيم؟ ماذا قال الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، الذي يعلم طبائع البشر، ويعلم أن الإنسان مهما علا كعبه ومهما بلغت منه الطاعة، فمن الجائز جداً أن يزل في أي لحظة من اللحظات، في لحظة ضعف بشري لا ينفك عنها إنسان إلا إن كان نبياً أو رسولاً معصوماً من الله جل وعلا.
قال النبي لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا -يا عمر - إنه ممن شهد بدراً، ولعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وفي رواية في الصحيح: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: أعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة).
أيها الأخيار! نجاه سابق عمله وصدق عطائه للإسلام من هذه التهمة النكراء، من أن يكون خائناً لله ولرسله وللمؤمنين، ولابد أن ينتبه شباب الصحوة لهذا الدرس.
قال الإمام القرطبي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن الكريم): الناس صنفان: صنف قد اشتهر بين الناس بالصلاح والدين، فهذا إن زل وجب على أهل الإيمان أن يصبروا عليه.
والصنف الآخر صنف يجاهر بمعصيته وذنوبه، فهذا لا غيبة له، يجب على أهل الفضل -إن نصحوه وذكروه وما زال مصراً على معصيته- أن يبكتوه بما فيه؛ كي يحذر الناس شره وفسقه.
أما أهل الصلاح فإن زل أحدهم أو إن أخطأ أحدهم فواجب على أهل الإيمان أن يستروا عليه، وألا يكونوا للشيطان عوناً على أخيهم إن زلت قدمه في بؤرة من بؤر المعاصي أو حفرة من حفر الذنوب في لحظة ضعف بشري لا ينفك عنها إلا نبي أو رسول معصوم من قبل الله جل وعلا.
وقال الحافظ ابن كثير: والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية عامة في التحذير من الوقوع في خيانة الله ورسوله والمؤمنين في كل زمان ومكان.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:٢٧]، هذا نداء لمن حقق الإيمان، والإيمان ليس كلمة ترددها الألسنة دخاناً يطير في الهواء فحسب، ولكن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.