[بداية المرحلة المكية وإيذاء المشركين للدعوة]
وتفنن أهل مكة في إيذاء الحبيب، وسبحان الله! لم يمض على الجهر بالدعوة إلا أشهر معدودة وإذ بموسم الحج يقترب، والعرب كانوا يحجون البيت قبل الإسلام وهم على الشرك، وكانوا يقدسون البيت تقديساً عجيباً.
واجتمع المشركون في مكة وخافوا على العرب من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن كلامه يسري إلى القلوب كسريان الماء بين الشقوق، وكسريان الدماء بين العروق، فاتفقوا على كلمة حتى لا يكذب بعضهم بعضاً، واتفقوا جميعاً على قولة المتكبر المعاند الذي عرف الحق وتكبر عليه وأعرض عنه، وهي مقولة الوليد بن المغيرة، الذي فكر في الأمر وقلبه من جميع جوانبه، {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:١٨ - ٢٢]-كشر- {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:٢٣ - ٢٤]، إن الذي جاء به محمد سحر يفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وقبيلته وعشيرته، وانفضوا جميعاً وقد اتفقوا على أن يقولوا: إن محمداً ساحر، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
حتى أقبلت الوفود، فقام النبي عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى لا إله إلا الله، وأبو لهب يمشي خلفه ويقول: لا تصدقوه فإنه صابئ كذاب! اتهموه بالجنون ونادوا عليه وقالوا: يا مجنون! {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:٦]، {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:٤].
وازداد الأمر سوءاً، واشتد البلاء والاضطهاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن امرأة تتطاول على صاحب المقام العالي صلى الله عليه وسلم، وتذهب هذه المرأة التي داست على أنوثتها وتطاولت بل وفاقت المشركين شراسة ووقاحة، إنها أم جميل التي تمزق قلبها من الحسرة على ما سمعت من القرآن الذي تلي في حقها وزوجها، وأخذت الحجارة في يديها، وذهبت إلى رسول الله حول بيت الله لتلقي بالحجارة على رأسه وعلى فمه، وذهبت إليه وهو جالس مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه وقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ -لقد أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد بلغني أنه يهجوني، ووالله إني لشاعرة، ثم قالت: والله لو وجدته لرميت فاه بهذا الفهر -أي: بهذه الحجارة-، ثم أنشدت وقالت: مذمم عصينا -أي: محمد عصينا-.
ودينه قلينا.
وأمره أبينا.
وفتحت هذه المرأة الشريرة الباب للمشركين أن يتطاولوا، وأن يصبوا العذاب صباً على أشرف رأس وأطهر رأس وأعظم بدن دب على ظهر هذه الأرض.
وروى البخاري من حديث عبد الله بن مسعود: (جلس أبو جهل وأصحابه من حوله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، فقال أبو جهل عليه لعنة الله: من يقوم منكم إلى سلا جزور بني فلان فيلقيه على ظهر محمد وهو ساجد، فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط، وجاء بسلا الجزور النجس وانتظر حتى سجد الحبيب صلى الله عليه وسلم وألقاه على ظهره وعلى رأسه، وظل النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً لا يرفع رأسه)، أتلقى النجاسة على رأس رسول الله؟! نعم، وظل الحبيب صلى الله عليه وسلم ساجداً لا يرفع رأسه (حتى جاءت إليه ابنته فرفعت الأذى عن أبيها)، ابنة تنظر إلى أبيها على أنه أعظم الرجال، هاهي تدفع الأذى والنجاسة بيديها عن رأسه وعن ظهره الشريف، ويرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه.
وفي البخاري أيضاً: (أن عقبة ذهب مرة أخرى وخنق النبي عليه الصلاة والسلام خنقاً شديداً حتى كادت أنفاسه أن تخرج، ويأتي الصديق رضي الله عنه ويأخذ بمنكبيه ويدفعه وهو يقول له: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!) ليس له جريمة إلا أنه يقول: لا إله إلا الله، أصبحت كلمة التوحيد جريمة في القديم وفي الحديث! {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:٢٨].
أصبح التوحيد جريمة، أصبح التوحيد تطرفاً، أصبح التوحيد إرهاباً، {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:٢٨].
بل ويزداد الأمر سوءاً -كما روى الطبري وابن إسحاق -: فيلقي عليه بعض الأنذال الأوباش تراباً على رأسه، ويرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته والتراب على رأسه، فتقوم إليه إحدى بناته لتغسل التراب من على أشرف رأس وأطهر رأس، وهي تبكي والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي ولا تحزني يا ابنتي، إن الله مانع أباك إن شاء الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.